د. عبدالله باحجاج
نتحدَّث هنا على وجه الخصوص عن العائلات التي نزحت من ولايتيْ ضلكوت ورخيوت إلى صلالة؛ بسبب إعصار مِكونو، الذي دمَّر منازل الكثير منها، وأحدث بالأخريات أضرارًا بين البليغة والمتوسطة والخفيفة.. فمتى ستعود هذه العائلات إلى مناطقها الحدودية؟
هذا يتوقَّف بطبيعة الحال على سرعة إعادة بناء وتأهيل منازلها التي تضررت بفعل الإعصار، ويبدو أن هذه المسألة ستتأخر طويلا؛ إذ لا يبدو في الأفق أنَّ هناك إجراءات سريعة تدفع باتجاه عودة هذه العائلات في آجال زمنية محددة، كل ما تم إنجازه حتى الآن هو صرف مبالغ مالية مؤقتة -للعديد من العائلات أي ليس للكل- وللعائلات في ضلكوت ورخيوت فقط، دون بقية الولايات الأخرى؛ للاستئجار حتى يتمَّ إعادتها إلى منازلها؛ مما يعني أنها ستظل بعيدة عن جغرافيتها الحدودية.
لكن إلى متي؟.. هنا يكمن جوهر المشكلة، وهو أنَّ عملية النزوح المؤقتة، ستفرغ أو لنقل ستقلل جغرافيتنا الحدودية من ديموغرافيتها، ونخشى أن تتحول إلى دائمة، وهناك مؤشرات تجعلنا نفتح هذا الأفق، وهو قيام العائلات النازحة بنقل قيد أبنائها الطلاب إلى مدارس صلالة، وهذا فعل طبيعي ومُتوقع لدواعي انتظام الأبناء في مسيرة التعليم، لكن دون أن تكون هناك رؤية محددة لزمن العودة؛ مما قد تستديم بسببه حالة النزوح للعائلات كلما طال زمن النزوح؛ وبالتالي تُفرغ جغرافيتنا الحدودية من العدد الكمي لديموغرافيتها؛ مما قد يفتح المخاطر الحدودية العابرة إلى داخلنا الحدودي، على اعتبار أنَّ هناك حالات نزوح بشرية لمنازلها قد تشغلها المخاطر العابرة، أو قد يجد في المحدودية السكانية للساكنة الحدودية فرصًا مواتية لهذا العبور من أجل توفير إقامة لعمالة وافدة مكان الأسر النازحة، ولنا في بعض مناطق ولايات ظفار الشرقية أفضل نموذج للرؤية التي نطرحها هنا. ففي الشويمية مثلا: سكنت الآلاف من الأيدي العاملة الوافدة -الشرعية وغير الشرعية- محلَّ المواطنين بعد نزوحهم لصلالة، واحتكروا البحر، وأصبحت لهم تجمعات داخلية داعمة لهم، واوجدوا وضعا معقدا يُهدد باختلالات متعددة الأشكال، لكن الاختلالات على حدودنا الغربية ستكون مختلفة تماما عن الاختلالات في ولايات ظفار الشرقية، للعامل الحدودي الذي يحتضن في جهته من خارج الحدود، مجموعة مخاطر أمنية وسياسية واجتماعية، ليس من مصلحتنا الوطنية التغلغل إلى داخلنا ابدًا.
ومن المعلوم أن تثبيت الديموغرافيا داخل جغرافيتها الجهوية، كانت سياسة حكومية ناجحة بامتياز، فمن أجلها -أي التثبيت- تمكنت الحكومة من جعل الديموغرافيا عاملا للاستقرار والأمن الإقليمي والجهوي بما فيه الحدودي؛ مما جعلها تصرف فاتورة كبيرة على شق طريق جبلي وعر يربط ضلكوت ورخيوت بامتدادها الإقليمي ومن ثمَّ الوطني، ويجعل التواصل الديموغرافي مُتاحًا رغم مشقة هذا الطريق، رغم وجود بدائل ممكنة أكثر سهولة من حيث اختصار الوقت وتقليل نسبة المخاطر، وهو الطريق البحري الذي لا تزال المطالبة المجتمعية به قائمة وبقوة، وستزداد خلال المرحلة المقبلة.
ومن أجل غايات التثبيت السكاني في مسقط رأس المواطن، شقت الطرق في الجبال والسهول والأودية، ومدت خدمات الماء والكهرباء إلى التكتلات السكانية الصغيرة والبعيدة والمنعزلة عن بعضها البعض؛ مما حافظت إلى حد كبير على المواقع السكانية كما هي قبل عصر النهضة المباركة حتَّى لا يشكل نزوح السكان ضغوطا على الخدمات، مما كان لها الأثر الفعال في تأمين حدودنا بما فيها الصحراوية. فتمركز السكان داخل امتدادنا الجغرافي يحمل أبعادا سياسية وأمنية واجتماعية، لا تزال قائمة، وستظل كذلك، ما دامت التحديات الجيوسياسية قائمة في المقابل، ولن تختفي أو تنتهي ما دامت الظروف الإقليمية الراهنة تأخذ صفة الديمومة التاريخية. ومن هنا، يظهر الجانب الوطني الضاغط لتثبيت الساكنة الحدودية، وتعزيز وجودها الحدودي بخدمات نوعية وكمية، يجعلها خطنا الدفاعي الأول "الأمني والدائم" لمواجهة المخاطر العابرة للحدود.
وهذا يحتم أولا سرعة عودة النازحين إلى مناطقها من خلال إقامة منازل جديدة لها بمواصفات عالية الجودة تستوعب مخاطر الانواء المناخية، والانفتاح في الوقت نفسه على الأسر التي لا تتوافر لها منازل أصلا أو غير ثابتة. فتحسين الوضع السكني، وجعل لكل أسرة منزلا حديثا، سياسة لها مجموعة أبعاد وطنية مُلحَّة الآن، بصرف النظر عن تأثيرات إعصار مِكونو على المنازل من عدمه؛ فنقل الساكنة الحدودية "وضعا ومعيشة" متاح الآن، وملايين التبرعات مُجمَّدة، وإذا ما كان هناك نقص مالي، فإقامة صندوق لتنمية وتطوير هذه الساكنة يُمكن الاستجابة له من قبل القطاع الخاص والمجتمع معا؛ مثلما تفعل الآن إحدى شركات الاتصال العمانية بجمع مبالغ لإعادة إعمار منطقة "كيرالا" بالهند؛ فلماذا لم ينصرف التفكير إلى مثل هذه الأساليب لجمع الأموال؟ وكيف تحرك الفكر الإبداعي نحو الخارج وليس الداخل؟
تساؤلان يعكسان بُعد النظرة للخارج، وقصورها للداخل، مع تسليمنا من حيث المبدأ بتفاعلنا مع الإنسانية في أية بقعة في العالم، لكن الاهتمام الأولى بالداخل أولا ومن ثم الخارج ثانيا، والتركيز الآن على ولاياتنا الغربية له الأولوية الآن من خلال حيثيات ومنطلقات مما ذكرناه سابقا، وهذا يجعل من آليات العمل تحتوي على المطالب الاجتماعية بمنازل آمنة لكل أسرة حدودية لا يتوفر لها منزل، وليس بمقدورها فعل ذلك لوحدها، يصرف النظر عن المتضررين من مِكونو من عدمه، والانفتاح على الطريق البحري، وكذلك إقامة مستشفى بكل الاختصاصات لبُعد المسافة من جهة، ومنح الخدمات نفسها للديموغرافيا المجاورة لدواعٍ إنسانية "كحق الجار على جاره"، وكذلك للروابط الاجتماعية المشتركة، ولتخفيف الضغط على الخدمات الصحية في صلالة.
لذا؛ فإنَّ نزوح الساكنية الحدودية، ونقل قيد أبنائها الطلاب إلى مدارس صلالة، يشكلان أعباء إضافية على الخدمات في صلالة، وستفرغ مناطقها الحدودية من جهة ثانية. ومن هنا نتساءل: متى سيتم بناء المنازل العاجلة للعائلات المتضررة من مِكونو حتى يتم عودة النازحين إلى ساكنتها الحدودية؟ وهل هناك من يهتم بالقضايا الكبيرة الناجمة عن هذا النزوح واستمراريته مؤقتا أو طويلا؟ ومتى سيتم توزيع التعويضات لبقية المتضررين؟ سنتابع الموضوع ميدانيًّا.