من شفافيّة المعنى إلى جمال المبنى:

...
...
...
...

 

الجليليّة رائدة عكاشة في "سنديانة الغرباء"

أ.د/ يوسف حطيني- أديب وناقد فلسطيني – جامعة الإمارات

أن يعالج كاتب ما موضوعات سياسية واجتماعية وإنسانية هادفة في قصصه القصيرة جداً، وفق شرطها الفني الراقي فهذا أمر يثلج الصدر، لا سيّما بعد أن قدّم كثير من المتحمسين لها تجارب غير مشجعة أبداً.
وما يسعدني شخصياً هو أن تخوض هذه المغامرة امرأة فلسطينية جليلية؛ لأن هذا يقدّم مجموعة من الدلالات؛ منها أنّ القصة القصيرة جداً بخير، وأنّ الأدب الفلسطيني بخير، وأنّ المرأة الفلسطينية قادرة على مجابهة ظروفها القاسية في الداخل الفلسطيني بكفاءة واقتدار.
* * *
تقدّم الكاتبة الفلسطينية الجليلية رائدة عكاشة في مجموعتها المسمّاة "سنديانة الغرباء" مئة قصة قصيرة جداً، وتحيلنا منذ قراءة العنوان إلى فلسطين، فالسنديانة الصامدة هي الوطن، والغرباء هم المحتلون الذين يغتصبونه؛ فإذا قرأنا القصة التي تحمل هذا العنوان بين دفتي المجموعة أحالتنا حكايتها لا إلى المغتصب فقط، بل إلى من سهّلوا الاغتصاب، ولم يستطيعوا جنيَ ثمرة عملهم الدنيء:
"لم يستطع ذكور أرانب القرية النّيل منها، كانت جميلة الطّلة بهية المُحيا، قاومت رياح شهوتهم ورفعت شراع الصّمود عاليا في وجوههم. وحين تحالفوا مع الشّيطان تحلقت حولها جموع الكلاب، واعتلت نهديها الذّئاب، وانتظرت الأرانب الجبانة دورها عند الأسوار.
هكذا صفعتها الريح الغريبة التّي لا تملُّ اغتصابها كل يوم".
* * *
ويمكننا من حيث الموضوع أن نقسم القصص المئة التي تضمنتها هذه المجموعة القصصية إلى ثلاث قضايا رئيسية هي: القضية الوطنية والقضية الاجتماعية والقضية الإنسانية:
ففي القضية الوطنية لا تساوم رائدة عكاشة على الثوابت الأساسية، ويستطيع من يطالع هذه المجموعة أن يلحظ إيماناً بالحتمية التاريخية التي تعني بمنطق التاريخ أن الغزاة "مثلما رحل غيرهم سيرحلون" كما تهمس بطلة قصة "غزاة لا يقرؤون" وهي في نزعها الأخير. كما يلاحظ أن رائدة مغرمة بالذاكرة التي تنقل ذلك الإيمان من جيل إلى جيل، لذلك تتعدد في قصصها الإشارات إلى الزيتون والسنديان، وإلى حاملي الذاكرة الذين يؤكدون أن "الأرض مثل العرض" (قصة: "شموخ")، وأنّ الزهايمر يمكن أن يجعل المرء ذاهلاً عن كل شيء، غير أنّه يمكن أن يتذكّر كلّ شيء في لحظة فارقة. تقول رائدة في قصة "زهايمر":
"التهم مرض الزهايمر ذاكرته الهرمة، فقدَ كلّ بارقة أمل. وعندما وقف على عتبات الكهولة جرف المرض من تلك الذاكرة أماكن معروفة وحكايات جميلة وأشخاصاً قريبين من القلب.
 حين وصل القدس، وقف على أعتابها، وأجال بصره في أنحائها، وملأ رئتيه من هوائها، فتوهّجت ذاكرته، وعاد يروي، بأدقّ التفاصيل، حكايات جميلة لأحبابه عن أماكن دافئة عاش فيها وعاشت فيه".
ولأنّ الذاكرة موضوع أثير لدى القاصة فإنّها عملت جاهدة على ترسيخه من خلال قصص متعددة، بل جسّدته عبر حامل آخر غير كبار السنّ، حين جعلت الأطفال يكبرون فجأة، ويقدرون على حمل ذاكرة الحرب بما تعنيه من قدرة على بناء جيل جديد مؤمن بضرورة المواجهة.
في قصة "كهولة مبكرة" تعرض القاصة نموذجاً بارعاً لتدمير الطفولة وتشويه براءتها، من خلال حكاية طفل غادر طفولته، أو بالأدق غادر ألعاب طفولته، ليلعب لعبة الحرب التي لا ترحم:
"متأملاً أرسل نظره إليهم وهم مجتمعون يلعبون داخل السياج. ودّ لو أنه يدخل ويلعب معهم.. مدّ بصره عبر السياج؛ فرأى طفلا في الثالثة من عمره يمسك بحذاء عتيق ويدفعه إلى الرمل ويصدر أصواتا من ذاكرة الحرب: وي.. وي.. وي... إنه يقود سيارة إسعاف من أجل أن ينقذ أصدقاءه الذين تحولوا إلى أشلاء!"
* * *
وعلى النقيض من ذلك؛ فإنّ الكاتبة، حين تعالج القضايا الإنسانية، تقدّم الأطفال  في ذروة سنام الإنسانية، عندما تتوفر لهم ظروف حياة طبيعية، ولعلّ قصة "براءة" واحدة من أجمل قصص المجموعة، فهي تبني حكايتها على فكرة تمجيد براءة الأطفال، وتفيد فنياً من تقنية تداخل الحقيقي بالخيالي. تقول الساردة/ المرأة:
"اشتريت اليوم لوحة جميلة لرجل عجوز يبكي. دموعه التي تملأ وجهه أسرتني وأدمت قلبي.. كانت دموعاً صادقة تشبه حبات المطر. وضعت اللوحة على الكنبة، ورحت أتأملها منتظرة أن يأتي زوجي؛ ليساعدني في تعليقها على الجدار.
بعد قليل جاءت ابنتي الصغيرة تحمل منديلاً راحت تمسح به دموع الرجل العجوز".
وفي قصص "اللامنتمي" و"صوت الألم" و"تيتا" تقدّم القاصة لفتات إنسانية نبيلة عن الانتماء، وعن علاقة الأم بابنها، ويمكن أن نمثّل بقصة "تيتا" التي تحكي عن حبّ لا تمحوه السنوات من خلال سرد طريف، يقود إلى هذه الدلالة عبر جملة أخيرة تُحدث المفارقة:
"تجلسانِ تحت شجرة الزّيتون المجاورة للبيت، تلعبانِ لعبة "تيتا" تتظاهرانِ بالبكاء وتمسحانِ عيونهما من دموع غير منسكبة، تقلدانِ جدّتهما: " يا حمزة! وينك يا حمزة"؟!
في الداخل كانت الجدة تسمع وتذرف دموعاً سخية وهي تتذكر يوم رحيل ابنها".

* * *
وينتمي عدد كبير من نصوص القاصة إلى ما يسمّى بالأدب الواقعي الانتقادي؛ إذ تنظر إلى أحوال مجتمعها وتنتقد عادته البالية ونفاقه الاجتماعي، وتتعرض بجرأة لمجموعة من النماذج الاجتماعية التي يفضّل الآخرون الابتعاد عنها؛ فهي تنتقد المتنفذين وذوي المناصب الذين يستغلون مناصبهم، والمدّعين الذن يقولون ما لا يفعلون، ولا ينجو حتى المتاجرين بالدين من سيف كلماتها، فهي لا تخشى في الحقّ لومة لائم، وتواجه العادات البالية الموروثة كما في قصتي "وأد" و"الميراث" والمستحدثة كما في قصة "تشيك إن" و"حب تكنولوجي". ويمكن أن نشير إلى قصة "الوفاء" التي تنتقد فيها القاصة الرجل الذي يدّعي الدين، ويأكل الأخضر واليابس، ثم يهرع بعد ذلك إلى المسجد، كما تمكن الإشارة إلى قصة "المخادع" التي تتناول بسهام نقدها رجل الدين الذي لا يريد أن يخدع البشر فقط، بل يسعى إلى خداع خالق البشر؛ ليصطدم بعد ذلك بسماء تردّ جميع دعواته. تقول القصة:
"يجلس على الشرفة يلعن هذا ويشتم ذلك، بينما يتسلل بصره نحو النافذة المقابلة متأملاً ظلّ امرأة خلف الستارة.
غير أنه لم يشعر بتأنيب ضمير من أي نوع، فهو يؤدي صلواته الخمس، ويبتهل إلى الله أن يحظى بمكانٍ لائق بين الحور العين.
وكانت ابتهالاته تصطدم كلّ يوم بسقف سميك من الذنوب".
* * *
فيما يتعلّق بالناحية الفنية تبدو القاصة متمكنة إلى حدّ كبير من التعامل مع عناصر هذا الفن السردي وتقنياته، وفي مقدّمتها الحكائية والتكثيف والمفارقة، وهي أمور تمكن ملاحظتها دون عناء في نصوصها، فالكاتبة في قصة "هدية عيد الميلاد" تقدّم حكاية جميلة مكثّفة تبني مفارقتها بذكاء، بعد أن تقدّم لها، وتعزز نقيضها في ذهن القارئ، ليكون حضورها أقوى؛ فالطفل ينتظر أن تكون هدية عيد ميلاده منظاراً، وينتظر تلك الهدية التي كان يرجو أن يحصل عليها من أبيه، وأخيراً (ربما يلاحظ القارئ أهمية الكلمة في تعزيز قيمة المنظار لدى الطفل)، يحضر له والده ذلك المنظار الموعود، ولكنه بعد أن يرى من خلاله "رعشات الألم والحنين، والدم المسفوك"، يعود إلى والده قائلاً: "لا أريد هذه الهدية".
ويمكن أن نشير أيضاً إلى قصة "مقاطعة" التي تحكي حكاية رجل وقفَ بكاملِ أناقتِهِ يُلقي خطابًا ناريًا من أجل مقاطعة المنتجات الأجنبية، ويشتري لابنه، بعد الانتهاء من خطابه مباشرة، بدلة وحذاءً وعطرًا  من أشهر الماركات الأجنبية  تحضيراً لحفلة تخرجه.
وربما تلجأ الكاتبة إلى إحداث المفارقة من خلال العبارة الأخيرة، بعد أن تعزّز نقيضها على مدى القصة، فالقاصة في قصة "لعنة الحرب" مثلاً تؤثث المشهد، وتبني منصّة الحدث بأناة دودة القزّ، دون أن يخطر في بال القارئ تلك النهاية المفجعة؛ إذ تفاجئه القاصة (ولا تفاجئ السرد طبعاً لأنّ لهذه النهاية مقدّماتها الفنية الملائمة)، في الكلمتين الأخيرتين:
"ها قد جاءت اليوم أيضاً.. تلك الفتاة الصغيرة.. فعلت ما تفعله كلّ يوم أمام واجهة المحلّ. أنظر إليها من وراء منضدتي، فلا أرى إلا رأسها: وجه ساحر حزين، وعينان خضراوان واسعتان، تتأملان أحذية الأطفال المعروضة في الواجهة بدهشة راغبة. قررت اليوم أن أفاجئها، وأحمل لها حذاء أحمر يليق بطفولتها، وحين خرجت من المحلّ دمعت عيناي حين جابهتي ابتسامة حائرة لطفلة بلا ساقين".
وتدلّ النصوص السابقة ونصوص المجموعة التي يطالعها القارئ أنّ القاصة تدرك أهمية التكثيف وتنبي جميع نصوصها على الحكائية التي لا يخلو منها نص من تلك النصوص، وتنوع في طرق تقديمها، وتستخدم، ربما من خلال حدسها اللغوي، جملاً فعلية تقود الحكاية بشكل سهمي إلى نهايتها، وتحافظ على وحدة النص الموضوعية، كما تلجأ إلى تقنيات السرد، دون أن تبالغ فيها، فتفيد من التشخيص والتصوير والرمز وتستثمر الكوابيس والأحلام، لتقدّم في نهاية الأمر قصصاً تستحق الانتماء بجدارة إلى هذا الفن.
في قصة "توبة نصوح" تبني القاصة حكايتها على التوازي بين المرأة والحرباء، وفي قصّتي "كرسي" و"كرسي آخر" تقوم القاصة بتشخيص الجماد، وفي قصة "مزهريتان وقلب واحد" تشخّص النبات، وتعطيه دوراً إنسانياً نبيلاً، بينما تفيد من تدفّق الصور الفنية في قصة "مقبرة خضراء"، ومن الرمز في قصة "مفتاح أخير"، وتعتمد على تقنية الحلم وكسره في في قصتي "أضغاث" و"شاعرة" (وإن كان الحلم في الثانية من أحلام اليقظة)، وتفيد من العنونة إلى حد كبير؛ إذ تقدّم لقصصها عناوين موحية، وعناوين مثيرة، وعناوين ناقصة تحرّض القارئ على إتمامها، كما تبني قصة "الأم" بناء فنياً متميزاً يجعل الأم المتوفاة تغادر إطار الصورة وتضع كمادات الماء البارد على جبين ابنتها المريضة:
"كلّ ليلة، منذ أن علّقوا صورتها على الجدار، تسهر على راحتهم. تراقب زوجها بحبّ، وتغطّي ابنتها النائمة، وتنتظر عودة ابنها، ولا تغلق عينيها حتى يغطّ الجميع في أحلامهم.
حين مرضت البنت، وارتفعت حرارتها إلى حدّ مخيف، سهر الأب إلى جانبها حتى غلبه التعب والنوم في منتصف الليل. وعند الصباح شكرته ابنته؛ لأنه وضع لها كمادات الماء البارد على جبينها عند الفجر. اندهش الأب من كلامها، ولكنّه أدرك ما جرى حين نظر إلى صورة زوجته المعلقة على الجدار، وهي تبتسم لهما بحنان".
* * *
هكذا تبدو الكاتبة الفلسطينية رائدة عكاشة في مجموعتها الأولى: متميزة في بنائها الفني، وشفافة الروح في الجانب الموضوعي؛ تنتقد وتجابه وتعاني، وإذا كان ثمة حزن يصبغ مجموعتها بشكل عام، فإنه من ذلك النوع الذي لا يقود إلى اليأس، وحسبنا أن نشير هنا إلى قصتي "الحياة" و"مزهريتان وقلب واحد"، حيث ترسّخ الأولى قيمة الأمل من خلال ميلاد طفل جديد، وترسّخ الثانية الحب بوصفه قيمة مطلقة. كيف لا؟ والكاتبة تبين بكل وضوح انتماءها من خلال قصتها الأخيرة التي حملت عنوان "أنا"؛ إذ تلعب لعبة فنية تغمر المجموعة بفيض من الحب الذي لا يستثني أحداً:
"حاولت أن أكتب اسمي على الصفحة البيضاء، بدأت بكتابة حرف الراء فتحوّل فجأة إلى سحابة، وأسرعت بكتابة الألف التي صارت شجرة، تحمّست وأضفت الهمزة فطارت حمامات بيضاء إلى فروع الشجرة، ووسط دهشتي صارت الدال تراباً يحتضن تلك الأشجار: حديقة كاملة ملأى بالعصافير.
قلت في نفسي: ماذا سيحدث حين أضع التاء المربوطة؟
ما كاد رأس القلم يبدأ بكتابتها حتى تحوّل اسمي كله إلى قلب كبير يجتمع فيه الناس من كل جنس ولون".
بوركت أيتها الكاتبة..
وبوركت فلسطين التي أنجبتك..
                                                             21/ 12/ 2017
                                                               د. يوسف حطّيني
ناقد فلسطيني ـ  جامعة الإمارات

 

تعليق عبر الفيس بوك