حمود الطوقي
أُطلُّ عليكم بمقالي الأسبوعي من العاصمة الماليزية كوالالمبور، هذه العاصمة التي تَشْهَد سباقا لتحقيق تطلعات الرئيس مهاتير محمد، الذي وضع خطة ماليزيا 2020 عندما تولى حزبه الرئاسة خلال الفترة من 1982-2003، لم يبقَ من عمر الخطة المهاتيرية سوى عامين فقط، وها هو النمر العجوز -البالغ من العمر 93 سنة- يعود من جديد، وهذه المرة متزعما حزب التحالف الوطني لتكملة رؤيته التي رسمها كخارطة الطريق في رئاسته للحكومة قبيل فترة حكم الرئيس نجيب عبدالرزاق.
هنا.. في كوالالمبور، الكل مُتفاءل بالحكومة الجديدة: سائق التاكسي والبقال ورجل الدين والموظف، وحتى الحزب المعارض، كلهم على يقين بأنَّ الحكمة والحنكة والنظرة التي يتمتع بها مهاتير ستعيد ماليزيا إلى العهد السابق، تتسارع الخطى في تنفيذ رؤية مهاتير "ماليزيا 2020" الشمس المشرقة. من القرارات الحاسمة التي اتخذها الرئيس العجوز فور تسلمه مقاليد السلطة في أبريل الماضي؛ حيث كان أول هذه القرارات محاربة الفساد بقبضة من حديد، ومنع الوزراء السابقين -وعلى رأسهم الرئيس نجيب عبدالرزاق- من مغادرة البلاد، وإحالتهم للقضاء والعدالة لمحاكمتهم في قضايا متعلقة بغسيل الأموال والفساد، وملاحقة كل المتورطين في هذه القضايا.
الرئيس مهاتير أعلن أنه سيستمر في إدارة شؤون البلاد لمدة عامين فقط، وسيتخلى طواعية عن الحكم بعد إجراء حزمة من الإصلاحات السياسية والاقتصادية وحتى الاجتماعية المطلوبة لكي تنعم بلاده بالاستقرار والازدهار، وتناطح الدول الآسيوية والدول الصناعية الكبرى في نموها ورفاهيتها في شتى الميادين.. هذه الرؤية التي كانت تشغل بال مهاتير وهو خارج دائرة الضوء.
من القرارات التي صفَّق لها الشعب الماليزي القرار الحاسم الذي اتَّخذه الرئيس مهاتير بسحب القوات الماليزبة من المشاركة ضمن قوات التحالف بقيادة المملكة العربية السعودية، والعودة إلى ماليزيا؛ حيث اعتبر أن بلاده التزمت دائما بسياسة الحياد، ولا تدعم أيًّا من الأيديولوجيات السياسية، ولها نظرتها في التعامل مع كل دول العالم بما يحقق مصالحها. كما منح المواطن اليمني تأشيرة دخول الأراضي الماليزية لمدة عامين؛ في إشارة إلى تعاطفه مع الشعب اليمني، ورفضه سياسة الحرب التي دمَّرت البنية الأساسية في اليمن الشقيق.
هذه السياسة جعلتْ الشعب الماليزي -بمختلف أطيافه وعقيدته- ينظر إلى حزب التحالف الوطني بقيادة الدكتور مهاتير محمد على أنه المُصلح لما أفسده الدهر خلال الحكومة السابقة، ويضع آماله وتطلعاته في نهضة جديدة ستستمر عامين لكي تتحقق الوعود التي أعلنها الرئيس مهاتير، والتي شملت حزمة من القرارات الإصلاحية التي تعود بالنفع على الحكومة، وعلى الشعب الماليزي؛ من بين هذه القرارات الشجاعة: إلغاء اتفاقية مشروع السكة الحديد التي تربط ماليزيا بسنغافورة، وإلغاء كافة العقود المبرمة مع الشركات الأجنبية التي كانت متعاقدة في تشغيل الموانئ الماليزية.
أعلن مهاتير أيضا أنه سيستمر في دفع برنامجه ورؤيته خلال العامين القادمين (2018-2020) وسيعتمد على رفع نسبة الدخل القومي للبلاد؛ من خلال تشجيع الاستثمار المحلي والأجنبي، بعيدا عن الصفقات المتعلقة بقضايا الرشوة والفساد.
مهاتير سيضع نُصب عينه تشجيع البحوث العلمية، وتلك المتعلقة بالطاقة البديلة والصناعة الثقيلة، وسيقر الرسوم العالية على الواردات الخارجية؛ بهدف تشجيع الصناعة المحلية.
لا نحتاج تقديم شهادة في حق هذا العملاق الذي تشرَّفتُ بمقابلته حينما زارنا في العاصمة مسقط مايو 2017، وقدم محاضرة قيِّمة بجامعة السلطان قابوس عن التخطيط الإستراتيجي من منظور التجربة الماليزية.
مهاتير محمد الرئيس الماليزي الحالي سيقُود ماليزيا حتمًا إلى عصر صناعة التكنولوجيا وعصر الثروة الصناعية الرابعة بكل تجلياتها. فقد أدرك منذ اللحظة الأولى أنَّ النهضة المهاتيرية لا يمكن لها أن ترى النور إلا من خلال دعم البحث العلمي وتشجيع العلم والمتعلمين، والارتقاء بجودة التعليم وتنمية قدرات الكوادر الفنية والمهنية، فأغدق الأموال على البعثات الدراسية لأرقى الجامعات العالمية؛ بُغية الحصول على الخبرات والارتقاء بجميع مؤسسات الدولة.
يعود مهاتير من جديد، ويجدد الوعد من خلال خطة واضحة المعالم أن يُسهم في رفد الاقتصاد الماليزي ويرفع نصيب دخل الفرد إلى أفضل مما هو عليه الآن، وأيضاً بتقليص حجم البطالة.. مهاتير -من خلال رؤيته- يستطيع أن يقود القاطرة ويتجه بالبلاد نحو نهضة اقتصادية عالية؛ حيث يتطلع لأن يحقق نسبا عالية جدا في معدل النمو الاقتصادي للبلاد، ورسم الخطط؛ بحيث تُصبح بلاده بحلول العام 2020 بلدا على درجة عالية من التقدم الصناعي.
ما يُثلج الصدر أنَّ ماليزيا أثبتت للعالم إمكانية قيام دولة إسلامية ناهضة اقتصاديًّا، بالاعتماد على شعبها، رغم اختلاف ديانتهم وأعراقهم، وهذا ما قام به مهاتير محمد سابقا، ويقوم به حاليا؛ فهو يصنف من قبل محبيه ومؤيديه بأنه مهندس التجربة الماليزية، وأنه مهندس النهضة الماليزية؛ وذلك لما قدَّمه في عهده السابق من إنجازات ضخمة يُشار إليها بالبنان. تمثلت في الطفرة المعرفية والعلمية، ونستطيع أن نستخلص ما قدمه مهاتير من تجربة فريدة تنموية ومعاصرة تقوم على التوافق بين القيم الرأسمالية السائدة والأفكار الإسلامية السامية النابعة من قناعته رفض استيراد المفاهيم الغربية، وما يتولد عنهما من رؤية تنموية قد لا تتناسب مع خُصوصيات المجتمع الماليزي المسلم، مع الانفتاح في نفس الوقت على الثقافات والأيديولوجيات الأخرى بالقدر الذي تحتاجه بلاده.
هكذا.. قاد القدر فيلسوف النهضة الماليزية لأن يمتطي جواده من جديد، بعدما رأى أنَّ البوصلة بدأت تغيِّر اتجاهها وتسير عكس ما تشتهي رياحه؛ لذا عقد النمر العجوز المحبوب العزم على العودة من جديد، مكتسبا محبَّة الشعب له وإنجازاته التي ظلت واضحة وراسخة، مُقتنعا بأنَّ هناك حاجة لضبط إيقاع الأداء الحكومي من جديد، وتنمية المسار الاقتصادي السياسي، والدفع بنظرية "الشمس المشرقة" التي انتهجتها ماليزيا منذ ما يربو على 38 عاما، بمزيدٍ من الحيوية والعطاء.
فهل سينجح مهاتير محمد في تحقيق وعوده؟! هذا ما سنراه خلال العامين المقبلين.