أنا وتلاميذي.. والهمزة!

أسماء بنت غابش الخروصية

تعود بي الذاكرة إلى موقف جميل، وهو لقائي بإحدى تلميذاتي العزيزات، في إحدى المؤسسات، وهي الآن موظفة في بداية حياتها العملية، كباقي زملائها وزميلاتها، يرفدون قطاعات العمل في شتى المجالات في خدمة هذا الوطن المعطاء.
هذه التلميذة بدا لي ترحيبها بشكل مختلف تماما عن البقية ممن وجدتهم في تلك المؤسسة؛ حيث اقتربت مني، وقالت لي بحرارة: "أستاذتي الغالية".
حاولت التذكُّر، فخذلتني الذاكرة في تلك اللحظة، لكنها لم تُمهل ذاكرتي وبادرت تعرفني بنفسها، وتصف الصفوف التي درستها فيها. وتتحدث عن زميلاتها، وكأنه الأمس القريب كان ذلك الحدث، يا لذلك الموقف وهي تصف لي الأيام الجميلة بجمالهم في الصف، وتصف البراءة والعفوية والطفولة فيهم. وتقول لي: أنا التي قمت بدور (الهمزة المتكبرة)، حينها استرجعت ذلك المشهد، وهنا تتجلَّى قيمة مسرحية الدروس من المنهج المدرسي؛ حيث كانت هناك مشكلة حقيقية واجهتني في توصيل المعلومة للتلاميذ في بعض الدروس.
ومن حسن الطالع آنذاك أنني كنت أشرف على النشاط المسرحي في المدرسة. ومواضيع الدروس في مناهج التعليم الأساسي رائعة، ولكن استوقفتني مشكلة مع التلاميذ عن الهمزة حينها أدركت أهمية توظيف النشاط المسرحي، واستحضرتني فكرة بما أنني أبحث عن نص المسابقة المسرحية إلى جانب تلاميذي وتلميذاتي وعددهم ثمانية وعشرون تلميذا وتلميذة، وأنا مربية الصف، ووجودي معهم طوال اليوم ساعدني على بلورة الفكرة التي راودتني في تجسيد مشاهد أوبريت مسرحي.
وتحت عنوان "الهمزة المتكبرة" أردتُ من خلالها أن نعيش هذه الفكرة والتجربة أنا وتلاميذي، وأدخل في تحدٍّ مع نفسي في عرض هذه الفكرة الجميلة من وجهة نظري، مع توطيد العلاقة وعقد المصالحة بين الهمزة والتلميذات من جهة أخرى. تلاميذ صفي آنذاك كانوا ثمانية وعشرين تلميذا وتلميذة فقد تزامن هذا العمل مع طرح مسابقة المسرح المدرسي؛ حيث كانت شروط المسابقة تتطلب كتابة نص أو مسرحة الدروس من الكتاب المدرسي في أوبريت مسرحي، وإخراج النص بالشكل الذي يتسنَّى لنا المشاركة فيه بشكل جديد ومغاير. وسيكون تلاميذ صفي هم من سيترجمون هذه الفكرة وينفذونها فهم أبطال هذا العمل. وسيتحدث مضمون الأوبريت عن غطرسة الهمزة وتخايلها بنفسها بين الحروف؛ مما جعلها غير مرحب بها بينهم.
هنا المشكلة التي أردت أن أجد لها حلًّا مع تلاميذي قضية الهمزة متى تكون همزة وصل؟ ومتى تكون همزة قطع؟ ومتى تكون على الحرف أو السطر؟ بحيث يكون العرض للموضوع عبارة عن حوارات شعرية غنائية تميل إلى السجع أو المساجلة، المبسطة في متناول فهم الطلاب بين الحروف والهمزة المتكبرة أكثر ما فيها في بداية العرض نوع من العتاب والشجون، بشكل مشوق لكل من يشاهد العرض.
وبدأ العرض... مشهد صامت، تبدأ الهمزة فيه باستعراض نفسها في تكبُّر وغطرسة، وأنها هي الملكة، ثم تبدأ تقاطعها كل الحروف، وكل حرف يحكي ما هو دوره، وأين موقعه من الهمزة. وماذا تعني له، ويذكرها بأنه لولاهم جميعاً لما استطاعت الصمود وحيدة.
فمن بين تلك الحوارات مع الهمزة، قال لها الألف: لولا صُمودي وتحمُّلي غطرستك لما استطعتِ الحفاظ على عرشك مُتوَّجة فوق رأسي، فكُفِّي عن هذا وإلا أسقطك أرضاً يا متكبرة.
أما حوار الواو معها: أنا أحني لك ذيلي لتقفي عليه عندما أعطف عليك، ويرق لك قلبي فلا تزدادي غروراً، وإلا رفستك رفساً. أما الياء، فتقول لها: احذري غضبي، وإلا سأحلق بجناحيّ وألقي بك في البحر.
هذه بعض الجمل مما أتذكر من حوارات العرض التي دارت بين الهمزة والحروف.
فما لبثت الهمزة إلا أن وجدت نفسها معزولة عن أهلها وإخوتها بسبب تكبرها... أخذت تفكر مع نفسها وتحلق بعيداً بفكرها، ثم ما لبثت أن عادت إلى رُشدها واستعادت وعيها في ترتيب حساباتها بأن تكون قريبة من الجميع، وتغير من أسلوبها وأخذت تتسامح من جميع إخوتها، ومنحوها فرصة ثانية لتغير من طباعها.
فرددوا جميعآ أغنية الحروف:
(أ) الله الواحد الأحد، (ب) باسمه الفرد الصمد، (ت) تباشير الخير غمرت كل الجسد، (ث) ثوابك يا ربي ليوم الأحد، (ج) جميل أن نبقى صف متحد. هذا إلى آخر الحروف وهم في بهجة وسرور واحتفاء بأختهم الهمزة. هذا ما تم هناك في المسرح، أما أنا هنا في الواقع والصف فقد ملكت حب التلاميذ لي وللهمزة، ومن خلال هذا النص الحواري الذي دار بين الهمزة والحروف، أردت أن أغرس مجموعة من القيم في نفوس التلاميذ منها: التسامح والتعايش وحسن التعامل مع القريب والبعيد والتواضع والحوار البناء الذي يحقق أفضل النتائج. هذا إلى جانب القيمة العلمية والمعرفية بواقع الهمزة متى تكون على الحروف أو السطر والفرق بين همزة القطع وهمزة الوصل.
من هُنا، كانت بدايتي وتجربتي مع مسرحة المنهج المدرسي، أو الدروس في المنهج المدرسي من خلال توظيفها التوظيف الأمثل في غرس القيم في نفوس التلاميذ. فأصبحت تربطني علاقة قوية مع تلاميذي، واستمر التواصل الدائم معهم رغم انشغالي وانشغالهم، ورغم تنقلهم في مراحلهم الدراسية؛ إلا أنَّه لا تزال ذكراهم في مخيلتي، وكأنهم أولئك التلاميذ الصغار ببراءة تصرفاتهم وبخيالهم الواسع.
وما زالت في ذاكرتهم الأستاذة القريبة منهم كأم ومربية يكنون لها كل معاني الحب والود، فأينما أذهب أجدهم في شتى المجالات وافتخر بهممهم العالية وعملهم الدؤوب.
وحكاية التلميذة التي التقيت بها، وذكرتها في أول المقال، كانت الصدفة بلقائها جميلة، وهي تقول لي: أستاذتي الفاضلة أنا فخورة بك؛ حيث كان لهذه الكلمات وقع كبير في نفسي؛ فهؤلاء التلاميذ سيظلون لوحة مشرقة في مسيرتي في التدريس. أفتخر بهم وبكل إنجازاتهم في كل المجالات.
هذه القصة من أجمل القصص مع تلاميذي طوال فترة العمل الميداني في مجال التدريس، وما زالت عالقة في ذاكرتي، فهي أعطتني دافعا قويا في تحدي الذات وتذليل الصعاب أمام أي موقف يواجهني في عملي، مع إيجاد الحلول المناسبة للموقف التعليمي داخل الصف، كما ساعدتني أيضا على معالجة المواقف عن طريق الأنشطة في المدرسة وعملية التفاعل مع المواقف الصفية مع الأنشطة اللاصفية ليزيد ثراء التلميذ من الناحية العلمية آن ذاك.
أخيرا.. تمثل هذه التجارب التربوية أرضاً خصبة للبناء عليها في الحقل التربوي، وكم هو جميل تطويرها ودعمها وتعزيزها لتلامس الشريحة المستهدفة، مع مراعاة التطور المعرفي والتقني الذي تخطى الزمان والمكان وعبر الحدود دونما استئذان.

asma.alkharusi@moe.om

تعليق عبر الفيس بوك