العودة لعصر "التناكر"

د. عبدالله باحجاج

 

تتفاقم معاناة أهالي وسكنى مدن في ولاية صلالة، وبالذات السعادة وصلحنوت وعوقد سنويا عندما يصل خريف ظفار إلى الذروة، حيث تنقطع المياه عنها بصورة كاملة، وصلت في ذروة خريف 2018 إلى حالة التأزم في وقت تجاوز فيه عدد زوار الخريف أكثر من نصف مليون، مما شكلت هذه الظاهرة المتجددة سنويا، والمتفاقمة حديثا قضية مؤرقة للمواطن والسائح؛ لأنّ كلا الجانين قد لجأ إلى "التناكر" لتأمين الحق في المياه.

ولنا تصوّر البعد النفسي للسائح وهو يستأجر شقة يتم تمديدها بالمياه بالتناكر في كل أو يومين؟ فأين نحن من صناعة السياحة، والحق في المياه معدوم؟ لنا كذلك تصور معاناة المواطن في حقه من المياه المدفوع الثمن، ومن زيادة أعبائه المالية في كل خريف، فصهريج المياه (800) جالون بعشرة ريالات، والصهريج (400) جالون بخمسة ريالات، والمفارقة هنا، أنّ أصحاب التناكر يرفضون رفع الأسعار رغم ارتفاع أسعار الوقود، ورغم زيادة الطلب على مياه تناكرهم، ويفضلون الربح اليسير، لأنّهم مواطنون، ولديهم إحساس رفيع بهذه القضية، فمن يعوض المتضررين من انقطاع المياه كل فصل خريف، وخاصة المبالغ التي يدفعونها للتناكر؟ وهل يحق لهم رفع قضية بالتعويض والأضرار الأخرى؟ على اعتبار أنّ هناك عقدا بين الجانبين يلزم الشركة بتأمين المياه للمواطنين مقابل مالي نظير ما يستهلكه كل مواطن، وإذا ما أخل المواطن بالتزامه المالي، يقطع عنه خدمة توصيل المياه.. وإذا كان الإخلال من الشركة، فلماذا لا تلزم بالتعويض؟

يكون المواطن دائمًا الطرف الأضعف، ولنا أن نأخذ مثلا ما يحدث الآن، فمنذ بعيد إعصار مكونو، وشركة تحصيل فواتير المياه والكهرباء، تعمل على قطع هذه الخدمات عن المواطنين بالمئات يوميا، والسبب عدم التزامهم بالدفع، فلا هي راعت الأبعاد المصاحبة لها، ولا تواقيتها الزمنية، كالحالة الاستثنائية المناخية التي خرجنا منها، ولا الموسم السياحي، مع التشديد المبالغ فيه في تحصل المستحقات – وقد أشرنا إليها في مقال سابق معنون بـ"إجراءات تثقل كاهل المواطن"- وهنا تتضاعف المعاناة، وتتمدد وتتسع على شرائح المواطنين، فهى في الخريف الحالي في وضعين، إمّا يقطع عنها المياه بسبب عدم الدفع أو بسبب العجز، أي عجز محطة اشور العمل بكامل طاقتها، ففي ذروة خريف 2019، وصل عجز الشركة نسبة (50%)، والمثير هنا، تجاهل الجهات الرسمية انقطاع المياه، وعجزها في حل هذه المشكلة القديمة الجديدة، والتساؤلات الأكثر إلحاحا هنا، تدور حول حفظ الحقوق، حقوق الدولة وحقوق المواطنين، فمثلا، هل هناك عقوبات على الشركة الأجنبية المشغلة لمحطة أشور بسبب الانقطاعات السنوية المتواصلة والمتفاقمة؟ فهل عقدها مع الحكومة يلزمها بتأمين الحق في المياه المدفوع الثمن عن طريق ضمانة تشغيلها المحطة بنسبة (100%)؟ هل ينص على عقوبات؟ وكيف يظهر لنا السيناريو المستقبلي في أسوأ الاحتمالات - لا قدر الله-؟

وترجع أهم الأسباب التي تجعل من محطة أشور تدخل في عجز سنوي يصل إلى النصف مياه السيول التي تذهب إلى البحر حاملة معها الأتربة وكل ما تلاقيه في طريقها من أشجار ومخلفات.. مما تؤثر على فلاترها البحرية، وقد كان خلال خريف 2018 أكثر تأثيرًا ونطاقا، نتيجة حجم السيول وضخامتها الناجمة عن إعصار مكانو، وتقاطع الإقبال السياحي الكبير معها، ولولا لجوء الجهة الحكومية الإقليمية عن المياه إلى المخزون الاستراتيجي للمياه، لربما كانت حجم المشكلة أكبر بكثير مما حدث، وهذه المشكلة تدفع بهذه الجهة الحكومية الآن إلى حفر آبار إضافية في معظم المناطق في محافظة ظفار، فمثلا (18) محطة في صلالة، (6) محطات في السعادة، (8) محطات في دربات... إلخ لكن هذا الإجراء رغم أهميّته في حالة الضرورة، لكنّه لن يحل المشكلة.

لذلك، فكيف يتم الصمت على العجز السنوي المتكرر لمحطة أشور، وهناك بدائل متاحة وممكنة، فقضية الفلاتر وتعطيلها لها عدة حلول، يعرفها الفنيون، وقد التقينا بهم أمس الأول، لكن يبدو أن الشركة الأجنبية لا تريد أن تضخ المزيد من المال لحل هذه المشكلة لضمانة الحق في المياه للمجتمع، فما موقف عقد الحكومة معها؟ في المقابل لنا تصور استشرافي تداعياته خطيرة جدا، وهو لو أن حدثا (ما) مفاجئا وقع لهذه المحطة - لا قدر الله- فماذا سيكون الوضع؟ ندعو للتأمل في هذا الاحتمال من منظور الحالات الاستثنائية التي قد تقع، من هنا يحتم العمل على إقامة محطة جديدة للتحلية، بعد العمل على تأمين تشغيل محطة شور بكامل طاقتها الإنتاجية في كل الأحوال والظروف.

وبعيد مِكونو، وجهنا دعوة عاجلة إلى الجهة المعنية بإنشاء لجنة متخصصة عاجلة لدراسة أهم الدروس التي يمكن أن نخرج بها من هذا الإعصار، وكيف يمكن مواجهة أية أحداث مماثلة مستقبلا، والتخفيف من آثارها السلبية على المجتمع، ولو فعلا، تشكلت هذه اللجنة، لكان محطة أشور وعجزها السنوي، وتفاقم عجزها في الأزمات على قائمة التحديات الإقليمية العاجلة، ولو تشكلت، لحتم على الجهة المعنية العمل على وجده السرعة إقامة سدود إضافية في صلالة لغرضين أساسيين، الأول، الاستفادة من كميات المياه الضخمة التي تذهب الى البحر سنويا ومنذ عدة عقود، والثاني لحماية مرافقنا ومصالحنا الاقتصادية الكبرى، فمثلا وادى عدونب فهو لوحده يحتاج لعدة سدود (خبير مختص يحددها بخمسة سدود) فما حدث لمرفق اقتصادي ذي أهمية استراتيجية عالمية في إعصار مكونو يفتح هذه الحاجة الملحة، فالسيول التي عبرته قد جرفت معها العربات مما أثرت على حركة التجارة العالمية في هذه المرفق.

ورغم كل ذلك يظل التساؤل قائما؛ وهو كيف نقبل بعودة عصر التناكر بعد أن دفعت الدولة الملايين على إقامة محطة للتحلية من أجل تأمين الحق في المياه بصورة مستدامة؟ هذا التساؤل ليس مطروح محليا، فقد تم تجاوزه، وإنما هو مطروح وطنيا في ظل تكرار أزمة انقطاع المياه سنويا، وصمت الجهات المحلية، وكفى بهذه الأزمة مؤشرًا على ماهية الوضع العام من جهة، وتأطيراته الاستراتيجية الجديدة من جهة أخرى، وهل هذه التأطيرات من رؤى وخطط نظرية، يمكن أن تنجح وفق آجالها الزمنية؟

فمثلا، حديثنا عن حتمية إقامة مرافق سياحية جديدة تدعم السياحة الخريفية، وتحولها من موسمية إلى مستدامة من قبيل الحلم، إذا ما استمر العجز السنوي في تأمين الحق في المياه؟ وهذا العجز لا يعبر عن عجز الحكومة بقدر ما هو عجز في أداء من شرفوا بخدمة الدولة - ومحطة أشور نموذجا- لذلك يظل طموحنا الاستراتيجي لقطاع السياحة ومدى منافستها للسياحة العائلية الإقليمية "طوباويا" فوق الواقع نفسه المراد تطويره، لعدم توفر أهم أدوات التطور، وهي كما أشرنا إليها سابقا، وهذا يرجعنا إلى المربع الأول، وهو كيفية تأمين أهم الحقوق الأساسية للمجتمع كالحق في استدامة المياه، فكيف نقفز إلى صناعة سياحة مستدامة؟ تبدو المسألة هنا في قمة المفارقات.