النقد وإشكاليات المنهج

 

دراسة: عبد الجواد خفاجى – ناقد وروائي مصري


جمالية النص الروائي ، مقاربة تحليلية لرواية "لعبة النسيان" ـ تأليف أحمد فرشوخ ـ دار الأمان للنشر والتوزيع ـ الرباط ـ المغرب ـ طبعة أولى ـ 1996 ، والدراسة هي الأطروحة التي نال بها المؤلف درجة الدكتوراه.
ولعله من الموضوعات المهمة التي أضحت تفرض النقاش، وتستوجبه هي إشكاليات المنهج النقدي، والحقيقة إن غياب نظرية نقد عربية، مع انفتاح الوعي العربي على الثقافة الأوروبية منذ ثلاثينيات القرن العشرين، إضافة إلى المثاقفة التي تتم في إطار التأثر العربي بالوافد الغربي، الأمر الذي خلق تفاوتاً في الخضوع للثقافة الغربية، كما خلق تفاوتاً في مستوى التأثر، ومن ثم ظهرت إشكاليات ثقافية كثيرة على الساحة العربية من بينها إشكالية المنهج النقدي.
ولعل مظاهر إشكاليات المنهج النقدي كثيرة، منها ما يتعلق بالمصطلح والوعي بمدلوله ومدي دقة ترجمته، وثانيها التخالط المنهجي عند البعض نتيجة لأن كثير من المناهج لم يكن بينها فاصل تاريخي، ومن ثم سوغ هذا للكثيرين أنها حزمة واحدة، رغم عدم تساوقها، بل أحيانا تنافرها على مستوى الفلسفات التي تتحكم فيها.
ومن مظاهر تلك الإشكالية أيضاً الخروج عن المنهج المحدد سلفاً وتجاوزه. ولعل تلك المظاهر تؤثر سلباً على طبيعة الدراسة النقدية بما تخلفه من تنافر وتضارب ومفارقات، أن لم تكن تفقدها مصداقيتها ودقتها وعلميتها.
إننا في بحثنا هذا سنتوقف عند دراسة أحمد فرشوخ في كتابه "جمالية النص الروائي " (مقاربة تحليلية لرواية لعبة النسيان) ( ) ؛ لنر إلى أي مدي تتراكم إشكاليات المنهج حول هذه الدراسات، وكيف أثرت فيها ؟
******
يبتديء أحمد فرشوخ كتابه بالإفصاح الضمني عن منهجه الذي سيتَّبعه في تحليل رواية "لعبة النسيان" للكاتب المغربي "محمد برادة" بقوله: " يتغيَّى هذا الكتاب ضبط عناصر ومقتربات أولية في القراءة الجمالية للرواية الجديدة، بما هي تحقق نصي، يلتصق بالصيرورة، ويلتقط حركيتها، ويستضمر بناها الجوهرية، في سياق إعادة تشكيل المتخيل الاجتماعي، وتشخيص فضاءات الرغبة، والحلم والاستيهام، وامتدادات الهامشي والمكبوت والمنسي، من خلال مسافة استاطيقية تحرر النص من تبعته للمرجع وتولِّد عوالمه الممكنة" صـ5.
من خلال هذه البداية يمكننا أن نتعرف على منهج الكاتب وتبعيته المرجعية، فهو محدد الملامح والوظائف بـ: 1ـ جمالي 2 ـ يستضمر البني في سياق إعادة المتخيل الجمعي 3 ـ تشخيص فضاءات الرغبة والحلم والاستيهام ... إلخ 4 ـ ضبط ( إمساك) عناصر أولية.
وعليه فهو منهج جمالي ( استاطيقي ) سسوسيولوجي نفسي بنيوي.. هذه التركيبة تتقاطع مع المعطيات التاريخية لتطورات المنهج الشكلي البنائي وتحولاته نحو البنيوية التكوينية أو(التوليدية) والبنيوية الجِذرية (النفسية) والبنيوية السيميائية، وهي المسارب الثلاثة للنقد الجمالي البنيوي وما بعد البنيوي ابتداء من "لوسيان جولد مان ، ولينهارت، وجاك دوفينو وباسكادي، وموبينو ، وهندلس ، ورولان بارت حتي جيرار جينيت. ورغم أن كل مسرب من هذه المسارب الثلاثة يعد اتجاهاً نقدياً يقوم بذاته، إلا أن الناقد جعل من هذه المسارب الثلاثة منهاجاً واحداً مفترضاً منذ البداية تساوق هذه المسارب الثلاثة.
ومما يؤكد صحة ما ذهبنا إليه في تحديدنا لطبيعة المنهج الذي يشتغل عليه فرشوخ أنه ابتدأ مقاربته في الفصل الأول مقتدياً بنموذج "جيرار جينيت" في مقاربته السيميائية للرواية في كتابيه "الأطراس" و "عتبات" اللذين ركز فيهما على دراسة المتعاليات النصية، ومنها ـ عند فرشوخ ـ عتبات النص وهي: الغلاف (أيقونة الصورة، التشكيل الحروفي، اللون ..... إلخ ) ثم شعرية العنوان من خلال النظر في بنيتي الدال، والمدلول، وهندسة العنوان و سلطته المركزية التي تتبدى من خلال التكرار لمفردات العنوان وتركيبته في ثنايا النص الروائي، ثم دلائل تسمية المؤلِّف (محمد براده)، ثم إشكالية التجنيس الأدبي وإشارية الإهداء، ثم الاستهلال وإشاريته ، فضاء الكتابة، أو طريقة توزع الحروف في الصفحة وكثافتها وما يتخللها من إشارات دالة كعلامات الترقيم.
ومما لا شك فيه أن السيميائية ساهمت في تجديد الوعي النقدي وتطوره ـ منذ خمسينيات القرن الماضي ـ من خلال النظر في طريقة التعاطي مع قضايا النص، من حيث ارتاكازها على المبادي الثلاثة الأساسية في عملية القراءة وهي:
أولاً: التحليل المحايث والبحث عن الشروط الداخلية المتحكمة في تكوين الدلالة واستبعاد أية إحالة خارجية، ومن ثم فالمعنى يُنظر إليه كما لو كان أثراً ناتجاً عن شبكة من العلاقات الرابطة بين العناصر.
ثم التحليل البنيوي حيث إدراك معنى الأقوال والنصوص يفترض وجود شبكة متينة من العلاقات، وهذا بدوره يؤدي بنا إلى التسليم بأن عناصر النص لا دلالة لها إلا عبر هذه الشبكة القائمة بينها، وهو ما نسميه شكل المضمون، أي بعبارة أخرى تحليلاً بنيويًا لأنه لا يهدف إلى وصف المعنى نفسه، وإنما شكله ومعماره. وثالثاُ تحليل الخطاب: تمييزاً عن تحليل اللسانيات البنيوية التي تهتم بالجملة. ( )
ومن ضمن ما اهتمت به السيميائية الحديثة هو دراسة عتبات النص، أو "النص الموازي" في اصطلاح آخر، مثل: العنوان الرئيس، والعناوين الفرعية، والعناوين الداخلية، ومدخل النص، ومخرجه، والديباجة، والتنبيهات، والتصدير والحواشي الجانبية، والسفلية، والهوامش المذيلة للنص، والعبارات التوجيهية، والإهداء، والزخرفة والرسوم، والأشرطة، ونوع الغلاف، وما شابه ذلك، وهي كلها عتبات مباشرة، وملحقات وعناصر تحيط بالعمل سواء من الخارج أو الداخل، وهي تتحدث مباشرة عن النص، إذ تفسر وتضيء جوانبه الغامضة، وتبعد عنه بوادر الالتباس، وما يمكن أن يشْكُل على القارئ.
"ويأتي الدور المباشر لدراسة العتبات متمثلاً في نقلها مركز التلقي من النص إلى النص الموازي، وهو الأمر الذي عدته الدراسات النقدية الحديثة مفتاحاً مهماً في دراسة النصوص" ( )
"ولعل من أبرز النقاد الغربيين الذين اهتموا بدراسة العلامات هو "جيرار جينيت" ثم نقاد آخرون من أبرزهم "كلود دوشيه" و "فيليب هامون" و " هنري ميتران" و"شارل كريفل". وقد عَرَّف "جينيت" النص الموازي بأنه "كل ما يمهد إلى الدخول إلى النص، أو يوازي النص" .( )
غير أن جينيت كان ينطلق إلى دراسة العتبات أو النص الموازي من خلال دراسات موسعة في المتعاليات النصيِّة .. "والمتعاليات النصية عنده خمس هي "الموازي النص ، الميتانصيَّة ، التناص ، التعالق النصيّ ، و معمارية النص" ( )
فالنص الموازي عبارة عن عتبات مباشرة، وملحقات وعناصر تحيط بالنص سواء من الداخل أم الخارج. وهي تتحدث مباشرة أو غير مباشرة عن النص، إذ تفسره وتضيء جوانبه الغامضة، وتبعد عنه التباساته وما أشكل على القارئ، وتشكل العناصر الموازية في الحقيقة نصوصًا مستقلة. فالخطاب المقدماتي ما هو ـ في الحقيقة ـ إلا نص مستقل بذاته له بنيته الخاصة ودلالات متعددة ووظائف.
كما يرد العنوان كما لو كان شكلاً صغيراً، يختزل نصا كبيرًا عبر التكثيف والإيحاء والترميز والتلخيص. وهكذا تشكل الملحقات المجاورة للنص (المؤلف-الجنس-المقدمات-العناوين-الحوارات إلخ...) نصوصا مستقلة مجاورة وموازية للنص.
وعموماً فإن جميع المتعاليات النصِّية على درجة من الأهمية الكبرى في فهم النص وتفسيره وتأويله من جميع جوانبه والإحاطة به كلية ، باعتبارها ـ كما أشار جينيت ـ "تعد خطاباً أساسياً ومساعداً، مسخراً لخدمة شيء آخر يثبت وجوده الحقيقي هو النص"( )
معنى ذلك أن "النصَ الموازي ـ ومهما بدا محايداً أو مستقلاً أو أوهَمَ بذلك ـ شديد الارتباط بالنص الأساسي، ويقف في بواباته ومداخله ساعياً إلى تقشير جيولوجيا المعنى بوعي يحفز في التفاصيل، وفي النص الأدبي الذي يحمل في نسيجه تعددية، وظلالاً لنصوص أخرى"( )
وبالعموم فإن " موضوع النص الموازي متعدد ومتنوع، ومجالاته ووظائفه مختلفة أيضاً تبعاً لما أريد لها من تفجير دلالات مركزية أو هامشية تدور في مع المحاور النصيَّة وتعين على إظهار سياقاتها الدلالية والتداولية"( )

استطاع فرشوخ ـ في الفصل الأول ـ أن يتبحر مع عتبات النص من خلال جمع المقولات التنظيرية التي تخدم توجهه السيميائي الباحث عن فتح دلالات نصية واسعة ينفذ منها إلى عوالم الرواية بخطي واسعة تمتلك إمكانية الوثوب نحو دلالات النص الكلية.
وإن كان الكاتب في سبيل تأكيد تأويلاته للعلامات ( الدوال) كان يجنح نحو سوق كثير من الاستشهادات النظرية التي يؤسس من خلالها لإنتاج دلالة ما، ومع شهرة "جينيت" وارتباط مشروعه بدراسة المتعاليات النصيِّة إلا أن فرشوخ لم يكن معنياً بالاستشهادات عن "جينيت" بقدر ما كان معنياً بالنقل عن "رولان بارت" ( هامش ص11 ، ص13، ص29) وتزفتان تودروف ( هامش صـ12 ، صـ30) و دريدا، وليو هوك ( هامش ص22 ) و"ميخائيل باختين " ( هامش ص31) وكأن الكاتب يسعى ـ دون أن يدري ـ إلى إعادة تأكيد مقولات جينيت ومشروعه من جديد، خاصة أن معظم من استقى منهم ليسوا معنيين بدراسة المتعاليات النصِّة وإن كانوا معنيين بالدراسات السيميائية ـ ومعظمهم سابق على جينيت تاريخيًا، من ناحية أخري لم يشر الكاتب إلى "جينيت " غير إشارة عابرة في بداية نصه عند ذكر مصطلح " المنصصية" الذي أرجعه إلى جينيت في كتابه "الطروس" دون أن يتوقف كثيراً أو قليلاً عند المصطلح الذي لم يرد غير مرة واحدة في كتابه، رغم أنه مصطلح أساسي عند جينيت ، وإن كانت " المنصصية" ـ كترجمة ـ تعد إشكالية في حد ذاتها، كان على الباحث ـ قبل أن يسلم بها ـ أن يعرض ـ هامشياً على الأقل ـ إشكالياتها العربية، فقد أثار مصطلح (Le paratexte) أو (La paratextualité) في استعمالات وتوظيفات جيرار جنيت G.Genette اضطرابا في الترجمة داخل الساحة الثقافية العربية بين المغاربة والمشارقة. والسبب في ذلك، الاعتماد على الترجمة القاموسية الحرفية، أو اعتماد المعنى بعيدا عن روح السياق الذي وظف فيه في اللغة الأصلية.
فسعيد يقطين يترجم مصطلح (Paratextes) بالمناصصات. وهي عنده في كتابه (القراءة والتجربة) تلك "التي تأتي على شكل هوامش نصية للنص الأصل بهدف التوضيح أو التعليق أو إثارة الالتباس الوارد. وتبدو لنا - يقول الباحث- هذه المناصصات خارجية (ويمكن أن تكون داخلية) غالباً. وفي كتابه "انفتاح النص الروائي"، يستعمل المناص بعد عملية الإدغام الصرفية، ويجمعها على صيغة المناصات. فالمناص اسم فاعل من الفعل ناص مناصة، معللاً اختياره بما يجد في هذا الفعل من دلالة على المشاركة والجوار، ومنه أخذ المناصة للدلالة على اسم الفاعل، وبعد ذلك يوظف هذا الباحث المغربي «المناص» في كتبه اللاحقة، ولا سيما في "الرواية والتراث السردي"( )
وعند محمد بنيس، نجد مصطلحا آخر هو (النص الموازي). ويقصد به الطريقة التي بها "يصنع به من نفسه كتابًا ويقترح ذاته بهذه الصفة على قرائه، وعموما على الجمهور" ( ).
ويتــرجم فــريد الزاهي مصطلـح(Le paratexte) بالمحيط الخارجي أو محيط النص الخارجي( ) أما عبد العالي بوطيب، فيستعمل المناص على غرار ترجمة سعيد يقطين( ) ولكن عبد الفتاح الجحمري يختار (النص الموازي) مثل محمد بنيس.( ) ويستعمل عبد الرحيم العلام مصطلح (الموازيات)( )
ويترجم الباحث التونسي محمد الهادي المطوي مصطلح (La paratextualité) بالموازية النصية أو الموازي النصي بعكس ترجمة محمد بنيس، وهذه الترجمة حرفية وقاموسية. و Para ترجمة للموازي، بمعنى المحاذاة والتفاعل معا و "في اللغة توازى الشيئان: تحاذيا وتقابلا، وذلك حتى يشمل المصطلح الصنفين السابقين من الموازي النصي (أي النص الداخلي والنص الفوقي الخارجي) وفيهما ما لا يجاور المتن في نفس الأثر كأن يكون شهادة أو تعليقا أو توضيحًا، إذا جاء متأخرا عن طبعه ونشره"( )
هكذا نحن نقف عند مصطلح واحد من عشرات المصطلحات التي استخدمها الناقد دون أن يتوقف ـ هامشياً على الأقل ـ عند دقة ترجمتها.
وبقدر ما أهمل الكاتب الإحالة إلى "جينيت" باعتباره مرجعية أساسية نظرياً وتطبيقيًا بقدر ما ذكر أن مرجعه الأساسي هو كتاب : بحوث في الرواية الجديدة" لمشال بورتو ( ص 12) وهو كتاب مترجم عن الفرنسية، وهكذا يتجاوز الكاتب عن المرجعية الأساسية إلى مرجعيات لاحقة لمجرد أن المرجعية اللاحقة انطوت في عنوانها على عبارة " الرواية الجديدة" دون أن يكون معنياً بتوضيح الاعتبارات التي تجعل مصطلح " الرواية الجدية" ملائماً للاستخدام باتجاه رواية "لعبة النسيان" أو على الأقل ما هي مبررات انتماء "لعبة النسيان" لمصطلح "الرواية الجديدة" وإن كنا بحاجة ما لتوضيح المصطلح وما يعنيه. ولعل إهمال الكاتب لهذه الاعتبارات يفضح تحيزه المبدئي للرواية موضوع الدراسة، ومن ثم فقد أضفى عليها مثل هذه الصفة التصنيفية التي تؤكد انتماءها النوعي المميز، دون أن يترك ذلك لاستنتاجات الدراسة.
ولعل مثل هذا التحيز هو ما فرض على الباحث جملة من أحكام انطباعية وذاتية تنأي ـ افتراضياً ـ عن طبيعة المنهج الجمالى البنائي عموماً، ونذكر من مثل هذه الأحكام ما ورد في خاتمة الكتاب " تتزيَّا رواية " لعبة النسيان" إذن بمحاولات استطيقية ورؤيوية مفتوحة، تمكنها من خلق مغايرة ضمن المشهد السردي المغربي والعربي، وتؤهلها بالتالي لحيازة شارة " الرواية الجديدة" دونما وصلها بالتيار الروائي السائد في العالم الغربي، وفي فرنسا تحديداً مشخصاً في نصوص آلان روب غرييه، وكلود سيمون، كلود مورياك، وجيروم لندن، ميشال بوتور، وناتالي ساروت .....(ص 129) وهكذا يعطي الناقد ـ بكثير تحيز ـ حكماً بتفوق رواية "لعبة النسيان" على ما عداها من روايات عربية وعالمية بعد أن أعطاها شارة "الرواية الجديدة" ومن دون أن يوضح ما هي الدرجة الصحيحة من التزييِّ بالمحاولات الاستاطيقية والرؤيوية التي تؤهل رواية ما لحيازة شارة "الرواية الجديدة" ؟ وما هي الدرجة التي حققتها رواية "لعبة النسيان" من الانقطاع عن التيار الروائي الغربي؟ خاصة أننا لمسنا محاولات متهافتة من الناقد في ثنايا تحقق الدراسة تؤكد صلات ما، بين شخوص "محمد برادة " في "لعبة النسيان" وشخوص " دوستويفسكي" ( صـ 67 ) حيث كان يتجه الناقد عكس السير محاولا الربط ـ على نحو متعسف ـ بين شخوص برادة و شخوص دوستويفسكي ( على مستوى البطل على الأقل) ليس من باب المقارنة فقط بين الشخوص هنا وهناك ولكن ـ أيضاً ـ من باب استدعاء حديث "باختين" عن شخوص "دوستويفسكي" ثم ليسير في طريق "باختين" وصولاً إلى برادة، ليؤكد أن "باختين" لو كان حياً لقال على "برادة" نفس الكلام الذي قاله عن دوستويفسكي، والحقيقة إننا نلمس تعسفاً في الربط الذي لم يأتٍ ـ وفق تنضيد الناقد ـ بناءً على تشابه حقيقي بين شخصيات "برادة" وشخصيات "دوستويفسكي" ولكن لأنه جاء بناء على اقتفاء أثر باختين في كلامه عن دوستويفسكي، وصولا إلى نتيجة معتسفة تضج بأحكام انطباعية وذاتية في الحكم على رواية "لعبة النسيان"، والدليل أن هذا التماثل المزعوم هو نفسه ما عاد الناقد لنفيه في الخاتمة على النحو المذكور آنفاً.
والحقيقة أن الناقد كان شديد التجنيح ـ أيضاً ـ نحو تأويلات ذاتية تبعد عن مدلولات كثير من الدوال التي كان معنياً باستنطاقها عبر نظره في العتبات وما يمكن أن تفضي به من مدلولات، وهذا ما يؤكد لدينا غلبة الذاتية على أحكام الناقد، صحيح أن عملية التأويل تعود في جانب كبير منها إلى قدرة الناقد وذائقته، ولكنها في المجال السيميائي تظل محكومة بالنص أو بما يفرضه النص نفسه على العملية التأويلية، نلمس من هذه التجنيحات المتباعدة قوله في تأويل الإهداء: ( إلى ليلى) .. يقول فرشوخ متسائلاً : " من تكون "ليلى" هاته؟ ثم بعد لأي يقول: " نقف عند تشاكل " ليلى" مع " الليل" في بعده النفسي، حيث يغدو التشاكل صوتياً ودلالياً، ليؤشر على رمزية عاطفية..." ثم أن التكرار الحرفي لللام يومئ فونومولوجياً وبقوة النبر والتنغيم على الطبيعة التلحينية للاسم، وإذا ما صدقنا الرمزية الصوتية أشَّر الحرف ذاته على البوح والرقة والشعور بشكل يكثف الحمولة الاستعارية للتسمية" (ص33) ولعلنا أمام استغراق مفعم بالتجنيح بحثاً عن مدلولات لليلى ، الأنثى التي يهدي إليها الكاتب روايته، وهي وإن دلت ففي يسر تتجه بنا نحو المحبوبة سواء أكانت حقيقية أم خيالية فإن تحليلها فنمولوجيا وصوتياً يبدو غير ذي قيمة، واستهلاكاً للجهد بحثاً عن الرطانة الكثيفة التي تحيل إلى الرغبة في اعتساف الدلالة أكثر من الرغبة في اكتشافها. ولعل الناقد بعد ذلك قد أوقعنا في إشكالية أخرى عندما أكد أن "ليلى" " تومئ إلى المرأة/ الأم ، والمرأة/ العشيقة معاً " ولم يجد مندوحة من هذا الربط "ما دام يتوحدان في التحليل الأدوديبي من المنظور الفريودي" ( ص67) وكأن ليلى هي الأم المعشوقة وكأن الكاتب مصاب بعقدة أوديب !! وعلى هذا النحو يصبح الكاتب مصاباً بهذه العقدة لا لشيء إلا لأن التحليل الفرويدي يربط بين الأم والعشيقة، وفي الوقت الذي ينفي فيه مؤلف الرواية هذا الزعم يصر عليه الناقد ( راجع هامش ص33) ولعل تصريحات الكاتب وحواراته تندرج تحت المتعاليات النصيَّة التي من شأنها أن تؤشر باتجاه إنتاج الدلالة وقد استشهد الناقد بتصريحات مؤلف الرواية في مواضع كثيرة واعتبرها ركيزة في عملية التحليل والتأويل وإنتاج الدلالة، لكنه في هذا الموضع يضرب بها عرض الحائط ليلصق به تهمة العقدة الأوديبية، والحقيقة أننا في حيرة من الأمر للدرجة التي نتساءل معها: متى تصبح حوارات المؤلف ناجعة باتجاه إنتاج الدلالة، ومتى تصبح مجردة من هذه الإمكانية؟.

الفصل الثاني:
يأتي الفصل الثاني من كتاب فرشوخ مركزاً على دراسة البنية السردية، مبتدئاً بجهد تنظيري تمهيدي مبسط عن السرد ومكوناته الشكلية، يخرج منه بعد أسطر قليلة لإطلاق أحكام قيمة مسهبة حول السرد وطبيعته في رواية "لعبة النسيان " لا ندري إلام استند الناقد في استنتاجها أو ما هي مبرراتها وإن كان اليقين لدينا لا ينفي وعي الناقد بطبيعة وتوجهات أحكامه ومبرراتها، ولكن ما يجعلها بلا قيمة أنها جاءت كتجهيز مسبق على التحليل المفترض، وكأن الكاتب يستنكف عن وضع الحصان أمام العربة، ليبدأ بالتحليل، وهو الجهد الحقيقي الذي يوظف منهجه ليصل إلى استنتاجات من شانها أن تكون مبرراً لبعض الأحكام النقدية.
مثال ذلك ما جاء (ص43) : تنزاح "لعبة النسيان" عن خطية السرد المرتكز على الوحدات الثلاث ( مقدمة، عقدة ، انفراج) والمحترم لتسلسل الأفعال السردية، إذ هي لا تقبل ما يسميه عبدالفتاح كاليطو بالقراءة العالمة، تمييزاً لها عن القراءة العادية ... " (ص43 ) ثم بعد كثير جهد وتفسير للفرق بين القراءة العالمة والعادية، يعود لإطلاق أحكام قيمة، تخضع بالدرجة الأولى للذاتية؛ لأن الناقد لم يقم حتى هذا الموضع من الفصل وعبر مساحة أربع صفحات من بداية الفصل بأي جهد تحليلي للرواية .. يقول: " تتبنى رواية برادة تجريبية البناء كاستراتيجية تروم مناظرة تفكك البنى الاجتماعية بتفكك الشكل الروائي، دون السقوط في انعكاس مرآوي، إلى جانب التأشير على تباين الأوعاء الاجتماعية من خلال تنوع الخطابات الحكائية داخل النص .. " ( ص44) ولأننا لم نعاين جهداً تحليلياً يؤكد صحة ما ذهب إليه الناقد، نتساءل حول إمكانية أن تكون أحكامه ـ غير المبررة ـ حقيقية أو على الأقل تتماس مع الحقائق الموضوعية التي يمكن أن يلمسها التحليل المفترض الغائب حتى اللحظة.. وإن كان الناقد لجأ إلى مبررات بعيدة جداً عن السرد ومكوناته في "لعبة النسيان"؛ فقد اتجه صوب "عبدالله العروي" ـ حسبما يوضح الهامش صـ44ـ في مقالة منشورة له حول النقد الروائي وإمكانية تماثل سوسيولوجيا الشكل مع سوسيولوجيا المضمون، ومع صحة الفرضية التي يذهب إليها عبدالله العروي أو عدم صحتها ، يبقى التساؤل قائماً حول مدي صحة ما ينبني عليها من استنتاج تطبيقاً على رواية "لعبة النسيان" وكل ما لاحظناه هو ذلك الربط المتعسف الذي يجر المقولات العائمة في محيط النقد الروائي إلى حاضرة "لعبة النسيان" دون أن يكون ثمة جهد تحليلي يؤكدها، والمفترض أن النص الروائي سيد موقفه، وهو ما يؤكد صحة الفرضيات وليس العكس، وهذا لن يتأتى قبل التحليل بل المفترض أنه ـ بداهة ـ يأتي بعده.
يستمر الناقد تحت العنوان الفرعي "مادة الحكي" دون أن يقدم أكثر من تصريحات مسهبة، عارضاً آراءه المجردة عن مادة الحكي طارحاً ما يشبه القنبلة النقدية المدوية فجأة في سياق الحديث عندما يصرح أن التوجه السردي في "لعبة النسيان" هو في الحقيقة توجهاً "سيرذاتي" مصراً على أن "لعبة النسيان" هي سيرة ذاتية، ولكي يثبت صحة مزاعمه يلجأ إلى حيلة رياضية ( نستخلصها من فحوى حديثه) لا علاقة لها بالنص المنقود، وتتلخص اللعبة الرياضية في المعادلتين الآتيتين:
1 ـ البعد التخييلي -------> رواية----------- > سيرة ذاتية
2ـ البعد التخييلي --------> سيرة ذاتية --------- > رواية
وبالنظر إلى تساوي المكونات الشكلية للمعادلتين مع ثبات البعد التخييلي في موضعه في المعادلتين يستنتج الناقد أن "الرواية = السيرة الذاتية" حيث أنهما يستبدلان المواقع في معادلتين متساويتين .. هذه اللعبة الرياضية هي ما نصوغها لما ورد بداية صفحة 48، ونستغرب كيف يمكن تطبيقها وهي معادلة عامة ـ على فرض صحتها ـ على رواية "لعبة النسيان"؟ وفيما يبدو أن الكاتب أقام مزاعمه وصدقها حد اليقين بناء على فهم خاص لتصريحات مؤلف الرواية (هامش صفحة 47) حيث ذكر المؤلف في حواره له مع "عبد الحي الديوري" أنه استخدم عناصر سيرذاتية كمادة حكائية. والحقيقة أن مثل هذا التصريح للمؤلف ـ بصرف النظر عن مدي مطابقته الحقيقة أو مجافاتها ـ لا ينهض ـ وحده ـ من وجهة نظر نقدية ـ بإثبات صحة الفرضية التي تقول إن "لعبة النسيان" هي سيرة ذاتية ، ولكن الناقد الذي بدا ملحاً على هذه الفكرة ومصدقاً بقوة لها، لم يقم بما يؤكدها من خلال التحليل النقدي، ولكن من خلال حديث مسهب تنظيري عن الفرق بين الرواية والسيرة الذاتية مستشهداً بكلام من الشرق والغرب، ثم أخيراً اللجوء إلى اللعبة الرياضية التي تنطوي علي خدعة رياضية في الأساس، ثم لينهي حديثه تحت العنوان "مادة الحكي" باستنتاج غريب أيضاً، ووجه الغرابة فيه أنه ينطبق على أي مادة روائية في التاريخ الأدبي للرواية.. يقول فيه: "وتأسيساً على هذه المقاربة ( ولا ندري أين هي المقاربة حتى الآن على الأقل؟! ) نخلص إلى كون المادة الحكائية للعبة النسيان تنطوي على تقاطع الأتوغرافيا بالتخييل بالتاريخ، هذا الذي تطوعه الرواية عبر تصور نوعي يصيره لغة داخل اللغة" (صـ48 ) .
ينطلق الناقد في جزئية تالية للحديث عن المنظور السردي مبتدئاً بتنظيرات كثيرة يستعيد فيها تاريخ التراكمات النظرية حول المنظور السردي، بدءاً بالنقد الأنجلوسكسوني وحتى "جيرار جينيت" إلى أن ينتهي أخيراً بالاستعانة بتصنيفات "نورمان فريدمان" للسارد، ثم "روسك كيون" ثم "واين بوث" ثم "ترودوف" ثم أخيراً " جيرار جينيت" وتصنيفه ذي الخصوصية المصطلحية، ثم وبعد هذه المقدمة الطويلة يبدأ الناقد في تصنيف أنواع الساردين ووضعياتهم في رواية "لعبة النسيان" بعيداً عن كافة التصنيفات التي ساقها !! حيث صنف الساردين إلى : السارد المتخفي، والسارد الجماعي، والسارد ـ الشخصية ، وراوي الرواة، ثم الكاتب الضمني، وأخيراً السارد الواصف، ثم لتنتهي هذه الجزئية من الحديث حول السارد ووضعيته دون أي استنتاجات، مكتفياً برصد وضعيات السارد.
والحقيقة أن السارد الروائي ـ عموماً ـ " يثير مشكلات منهجية عدة في نقد الرواية يتعلق بعضها ببنية النص، وبعض آخر يتعلق بالقيم المبثوثة في النص، وبعض ثالث يربط بين النص والمؤلف، وأخيراً هناك ما يتعلق برابط النص/ القارئ، وقد ظهرت المشكلات المنهجية بعد أن أُعْطِي السارد قدراً من الاهتمام لم ينله في مناهج نقد الرواية التقليدية"( ) ولعل الناقد مدرك لمثل هذه الإشكاليات التي يثيرها السارد، ولعله تطرق إلى الحديث عن تلك الإشكاليات في بداية حديثه عن المنظور السردي، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عن مدى تماس وضعيات الساردين في رواية " لعبة النسيان" مع هذه الإشكاليات وما هي الاستخلاصات التي يمكن أن نحددها من وراء دراسة وضعيات الساردين، ومدي استثمارها في إنتاج الدلالة الكلية للنص الروائي. أما كوننا نفاجأ بأن حديث الناقد عن وضعيات السارد ينتهي بتعميمات عن الرواية الشرقية ـ عموماـ فهذا ما يوقعنا حقيقة في الدهشة، ونحن نعاين قوله: " وليس يخفى أن الرواية المشرقية كانت سباقة إلى توظيف تقنية السرد الواصف ............ إلخ" ص ( 59) .
ثم يستمر الناقد في هذا الفصل مستعرضاً "صيغة الخطاب" وقد رأي أنها تأتي وفق الأنماط : الخطاب المسرود الموضوعي، والخطاب المسرود الذاتي، والخطاب المنقول، والخطاب المعروض، مرتكزاً على كثير من الاستشهادات المنقولة. والحقيقة أن البعض يرى أن الكثافة الاستشهادية في الأعمال النقدية تعد دليل تمكن ودقة وتعبر عن سعة إطلاع الناقد وصحة استنتاجاته وما إلى ذلك ، وربما أن كل ذلك قد يكون صحيحاً إذا جاءت الاستشهادات النظرية في سياق التحليل النقدي، أما أن تأتي سابقة عليه كتجهيز مسبق على نحو ما نري في تنضيد الناقد ـ في هذا الفصل على الأقل ـ فذلك ما يؤكد لدينا أن الأمر إنما هو إخلاص للتنظير والمنهج قبل أن يكون إخلاصاً للنص الروائي الذي جاء تالياً، كل مهمته أن يؤيد صحة المقولات النظرية الكثيفة التي يسوقها الناقد، وكأن التنظير هو فرض العين والاستشهاد بالنص فرض الكفاية، يكفي أن يقوم به شاهد واحد في مقابل جيش كامل من التنظير، ولعل هذا ما وسم التحليل بالجزئي أو الهامشي؛ لأنه يكتفي من النص الروائي بالشواهد اليسيرة ولم يكن باتجاه كلية النص الروائي.
يستمر الناقد في هذا الفصل مستعرضاً بنية الشخصية وإن كان دأبه مركزاً على سَوق أحكامٍ مسبقة عن الرواية بمعزل عن التحليل أو الشواهد التي تؤكدها (ص67) رابطًا ـ على نحو متعسف بين شخصيات "برادة" وشخصيات "دوستيوفسكي" ـ على نحو ما أسلفنا الحديث عن هذا التوجه ـ ثم ليستمر في سوق آراء انطباعية و أحكام سابقة التجهيز بمنأى عن تحليل يؤيدها ( ص 68) إلى أن يدخل بنا إلى تقسيماته للشخصية إلى 1ـ شخصيات مندمجة ـ 2 ـ شخصيات إشكالية 3 ـ شخصيات متصالحة.
ولعل ما يثير الانتباه في استعراض الناقد لبنيات الشخصية هو ربطه المتعسف بين شخصية الهادي وشخصية مؤلف "الرواية" دون دليل نصي يؤكد هذا الربط مكتفياُ بالقول أن ذلك الربط "من منظورنا" ( ص73).
ثم يتطرق الناقد بعد ذلك للحديث عن البنيات "الزمكانية" مؤكداً أن بنية الزمان وبنية المكان قابلتان للتوحد، بل هما متوحدتان في بنية زمكانية ثم ليبدأ بعد ذلك بفصل البنية الزمنية عن المكانية مستعرضاً كلاً منهما على حدا، وكأن التوحد السابق لم يكن أكثر من زعم.
وفي البنية الزمنية أو كما أسماها "نسقية الزمن" بدأ مقاربته بالتركيز على نسقيات: الزمن الحسي، ثم الزمن النفسي، ومن دون أن نلمح مشروع "جينيت" في دراسته لبنية الزمن الروائي رغم استشهاد الناقد بمقولات لـ"سيزا قاسم " في كتابها "بناء الرواية" التي اعتمدت فيه على مشروع "جينيت" النقدي.
وفي البنية المكانية توقف الناقد عند الفضاء الحميمي والفضاء المركز، ثم فضاء العتبة، ففضاء الهامشي، ثم لينهي هذا الفصل دون استنتاجات تُذكر، وكأن مهمة النقد الجمالي هو مجرد تفتيت النص إلى بنياته أو عناصره الصغري وحسب، أو لكأن مهمة التفتيت هي كل ما يخص النقد الجمالي، أو لكأن إدراك العلاقات بين هذه العناصر ليس من طبيعة هذا النقد ومهامه، أو لكأن مجرد وصف البنيات بمعزل عن العلاقات الأساسية التي تعمل في إطار البنية الجمالية الكلية ليس من مهمة هذا النقد.
نخلص من نظرتنا في كتاب "جماليات النص الروائي" لأحمد فرشوخ إلى استنتاجات مفادها:
1ـ أن منهج الناقد لم يكن صارماً بالقدر الذي يحدد معالمه بدقة وانضباط، فرغم أننا نتلمس معالم هذا المنهج على النحو الذي حددناه بداية ألا أن الناقد ـ أثناء تحقق العملية النقدية ـ كان منفتحاً بوعيه على الاتجاه الاستاطيقي بداية من "كانت" و "هيجل" وشوبنهاور ( يرجع في هذا إلى مقدمة الكتاب ـ ص 6) حيث الاستشهاد بمقولات لـ"كانت" وبعدها استشهاد بمقولات "جان بول سارتر" وانتهاء بجرار جينيت وأخرين من رواد النقد الجمالي البنيوي وما بعد البنيوي. ولم يكن الناقد أكثر من نحلة تتوقف حيثما شاء لها التوقف في مساحة شاسعة من تاريخ النقد الإستطيقي تبدأ من "بومجارتن" الألماني الذي يعتبر أول من استخدم مصطلح "الإستطيقا" في النصف الثاني من القرن الثامن عشر وحتي اللحظة الراهنة حيث تتوالي البحوث الجمالية، ومن دون أن يحدد الناقد عند من سيقف بمشروعه النقدي في هذه المساحة التاريخية الشاسعة التي لم تكن الفلسفات والرؤي والتوجهات والمشاريع النقدية فيها متساوقة على النحو الذي يجعلها برمتها ساحة لمشروع نقدي متجانس الرؤي والتوجهات، وبالكيفية التي تجعل منه مشروعاً واحداً يمارس عمله على رواية ما.
2 ـ أولت العملية النقدية عنايتها بسوق المقولات النظرية على النحو الذي استهلك الجهد النقدي بعيداً عن التحليل النصوصي المفترض، أو ـ على الأقل ـ المتناسب مع حجم التنظير، فيما بدا أن مهمة الناقد هو توظيف النص الروائي لصالح التنظيرات وليس العكس، أو لكأنه يبحث عن صحة المقولات من خلال النص المنقود. وهذا ما جعل التحليل النقدي هو التالي، وأن مهمة التحليل هي مطابقة التنظير.. هي عملية معكوسة تهدف غالباً إلى خدمة المنهج أكثر من أن يكون هدفها خدمة النص المنقود، ولعل هذا ما فرض في كثير من المواضع نظراً جزئياً في النص الروائي.
3 ـ رغم ما تتسم به المناهج في النقد الألسني الحديث من صرامة تحُول بين الناقد وسوق الأحكام التقيمية والذاتية والانطباعية إلا أن الناقد في هذا الكتب كان أميل إلى اختراق طبيعة هذه المناهج التي أعلن انتماءه إليها بداية، عن طريق سوق الكثير من الأحكام الانطباعية والذاتية بمعزل عن التحليل أو الاستنتاجات التي كان من المفترض أن يتوصل إليها.
4 ـ لم يكن رغم هذا ينتهي من تحليلاته باستنتاجات عامة من شأنها أن تعيد ما فككه من لبنات النص إلى سياق كلي ذي قيمة دلالية، وكأن المهمة هي مجرد التفكيك إلى العناصر الأولية والإشارة إليها وتعينيها، وكأن المهمة النقدية تأتي اكتفاءً بحاصل جمع أساليب النص.!! ، وإن كانت ثمة استنتاجات جزئية في ثنايا البحث النقدي فإنها كانت تأتي ـ على نحو ما ذكرنا ـ في إطار التعميمات التي تصلح للتوظيف باتجاه أي رواية أخرى، وربما أنها استنتاجات كانت تسير في إطار البديهيات، وكأن الناقد كان يفسر الماء بعد الجهد بالماء.

 

تعليق عبر الفيس بوك