عبيدلي العبيدلي
في خضم تلاطم أمواج الصراعات السياسية في المنطقة العربية، يتبوأ المقاعد الرئيسة في المشهد السياسي العربي، مجموعة الأطراف الرئيسة الضالعة في الصراع، التي تتمحور جميعها حول بؤرتيه المركزيتين، وهما مؤسسات الدولة وأجهزتها في طرف، والقوى السياسية من أحزاب وجبهات مناوئة لها في الطرف المُقابل. تساند كل واحدة من هاتين القوتين، مجموعة من التحالفات تنضوي تحت إمرتها وتنفذ سياساتها مؤسسات عسكرية، وأجهزة أمنية. كل ذلك يفسر، بشكل أو بآخر استمرار مثل هذه الصراعات على جبهات مختلفة، البعض منها إقليمي، والآخر دولي. ويكشف المصالح المعلنة والمخفية التي تجد في تغذية مثل تلك الصراعات وتأجيجها مصلحة مباشرة، ليست بالضرورة محض اقتصادية، بل ربما يتسع نطاقها كي يشمل عناصر النفوذ، أو السيطرة.
الغائب الكبير، أو بالأحرى المُغيب الأساسي من هذه الصورة هو منظمات المجتمع المدني العربية، التي اختطفت منها هذا الدور، بوعي وربما بغير وعي، تلك القوى المتصارعة، التي أصبحت، رغم ما يبدو من تنافر شديد بين مصالحها، لكن هناك ما يجمعها وهو تهميش دور منظمات المجتمع المدني، التي ترى فيها تلك القوى، الكثير من العناصر التي يمكن أن تهدد النفوذ الذي تنعم به، أو تقلص من مساحات هوامش السيطرة التي تتمتع بها.
ولعل أحد الأسباب الرئيسة التي وضعت منظمات المجتمع المدني العربية في مكانها الخاطئ، كما يقول موقع "أفكار ومواقف" الإلكتروني هو بروز مفهوم المجتمع المدني في كثير من الدول العربية، كما لو كان (رأس حربة) سياسية أو كيانا أيديولوجيا في قضية الديمقراطية والتنمية السياسية. ولكن وبكثير من الحقيقة الجلية لم تبرأ استخدامات وتوظيفات هذا المفهوم من الشحنة الآيدلوجية حيناً أو من السمة الاستعراضية التعبوية حيناً آخر. فظهر المجتمع المدني عند أنصاره المتحمسين له وكأنَّه الساحة اللوجستية الأثيرة للمعارك السياسية والحزبية في الدولة، وأصبح وكأنه الواجهة التي تستخدمها القوى السياسية للأحزاب في مصارعتها ومُعارضتها للحكومة حيث نكصت قوى المعارضة عن تقديم نفسها بهويتها السياسية الصريحة، وعزفت عن خوض معركة الديمقراطية بصورة الممارسة السياسية التقليدية. وانطلقت تغذي خطابها السياسي عبر منظمات ومؤسسات غير حكومية وغير سياسية بالأصل".
هذا لا يعفي المُجتمع المدني العربي من مسؤوليته الذاتية عن الغياب الذي يُعاني منه، وهو أمر يشير له الكاتب زياد عبد الصمد، في تشخيصه لأسباب ضمور مساهمة منظمات المُجتمع المدني العربية في الشأن السياسي، وفق الدور السليم المناط بها القيام به، غير المشوه، وبعيداً عن ذلك الذي يحرفها عن مسارها الصحيح الذي ينبغي لها أن تسلكه. يشير عبد الصمد إلى ذلك بالتأكيد على أنه ". خلال السنوات القليلة الماضية كثر الحديث عن المجتمع المدني وكأنه إطار متجانس ومتماسك وموحد يقوم بدور واضح ويساهم في وضع السياسات وينظم الحملات من أجل التأثير في صناعة القرار، (مضيفا) أثبتت التجارب أن الواقع غير ذلك. فعلى الرغم من الأدوار المتقدمة والإيجابية التي تقوم بها بعض منظمات المجتمع المدني في ميادين كثيرة، تتمسك منظمات أخرى بالتقاليد المحافظة التي تبطئ المسار الإصلاحي".
مجموعة من الباحثين العرب شخصوا الدور الصحيح لمنظمات المجتمع المدني في عملية التطور الديمقراطي المنشودة للمجتمعات العربية، " يتطلب قيام تنظيمات غير حكومية تمارس نشاطا يكمل دور الدولة ويساعد على إشاعة قيم المبادرة والجماعية والاعتماد على النفس ما يهيئ فرصا أفضل لتتجاوز هذه المجتمعات مرحلة الاعتماد على الدولة في كل شيء، وكذلك تصفية أوضاع اجتماعية بالية موروثة من العصور الوسطى وهناك العديد من المجتمعات تشهد بالفعل جهودا حثيثة للتوسع في تكوين هذه التنظيمات والمؤسسات وذلك للدور الذي ستلعبه في تطور هذه المجتمعات ورقيها".
وزير التعليم العالي والبحث العلمي الأردني أمين محمود، له اجتهاد يستحق التوقف عنده في مجال صياغة المعادلة الصحيحة التي ترسم معالم دور منظمات المجتمع المدني في التطوير من خلال التأثير على دوائر صنع القرار، حيث نجده يدعو "منظمات المجتمع المدني إلى تجاوز تقديم الخدمات لتصبح قوة فاعلة ومؤثرة في عملية صنع السياسات وتنفيذها وتقويمها، مشيرًا إلى أن الأصل في العلاقة بينها وبين الدولة أن تكون تكاملية وليست علاقات خصومة وعداء، (مؤكدا على)، أن منظمات المجتمع المدني تشكل بيوت خبرة لا غنى عنها في عملية صنع القرار، منوهًا إلى ضرورة التفكير الجماعي وتجاوز التصورات الورقية عندما يتعلق الأمر برسم السياسة العامة".
كل ذلك يوصلنا، منطقياً، إلى أن المساحة التي تشغلها منظمات المجتمع المدني العربية في صنع القرارات، والسياسات العامة ما تزال ضيقة، إن لم تكن ملغية، وهذا يعود في الأساس إلى رفض مكونات العمل السياسي العربي، كما ينوه الباحث أدهم عدنان طبيل الالتزام، "باحترام استقلال تلك المنظمات وحقها في ممارسة أية أدوار دفاعية يبتغيها، وحقها في توجيه الانتقادات إلى الحكومة بل ورفضها التعاون معها. فالشراكة الناجحة تقوم على أساس الثقة المتبادلة بين الشركاء واحترام استقلال كل طرف وتوفير آليات للتعاون".
وفي هذا السياق يقارن طبيل بين الحالة في دولة مثل السويد التي تحظى فيها منظمات المجتمع المدني بإجماع مجتمعي بأن "المنظمات غير الحكومية جزء من النظام السياسي والإداري للدولة". ولا تختلف فرنسا، كما ينوه طبيل عن السويد، حيث تشارك منظمات المجتمع المدني في فرنسا في صنع السياسات وتنفيذها، وأيضاً في تخصيص الموارد وتحديد الفئات المستهدفة من خلال لجنة التعاون التنموي والتي تضم ممثلين من الحكومة والمنظمات غير الحكومية".
في المجمل، أن تدني تطور مستوى الوعي السياسي والاجتماعي لدى مكونات العمل السياسي العربي هو ما يقف وراء عجز منظمات المجتمع المدني عن ممارسة دورها الطبيعي والمشروع ويقود في حالات كثيرة إلى، كما يحذر البعض "تجميد عمل تلك المنظمات أو حلها أو تعقب أنشطتها". وهو ما يعني غيابها.