حاتم الطائي
من المؤسف أن نرى في اليمن الشقيق مشاهد الدمار والمعارك الدامية متواصلة يوميا بلا توقف، دون مراعاة لأي حرمات، ودون اعتبار لأي بعد إنساني، فالقتال الدائر هناك يظل التحدي الأكبر أمام جهود السلام في هذه البقعة من منطقتنا المشتعلة في الأساس، غير أنّ الأمل معقود على الجهود الأممية الحثيثة لحلحلة الملف اليمني وإحداث تقدم ملموس، ومما يعزز هذه الآمال أنّ الدبلوماسية العمانية تتواجد على خطوط الحل وتدعم كل خطوة من شأنها أن تنهي حالة الصراع.
والتحرّك العماني لدعم السلام في اليمن، لا ينبع فقط من الأهميّة الاستراتيجية لليمن على السلطنة، باعتباره جزءا من الأمن القومي لنا نحن في عمان، بل أيضًا بدافع إنساني من أجل وقف نزيف الدم اليمني وبدء جهود إعادة الإعمار في ذلك البلد الذي مزقته الحرب، وأتت على الأخضر واليابس فيه، ما أدى لتفشي أمراض بالغة الخطورة ومنها الكوليرا..
ولذلك كانت التأكيدات العمانية الأمريكية واضحة وجلية عندما عُقدت جلسة مباحثات بين معالي الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية يوسف بن علوي، ووزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، حيث شدد الطرفان على دعمهما لجهود مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن، ودعوتهما لتجنب المزيد من التصعيد. ومثل هذا التوجه يعكس التأييد الأمريكي لوجهات النظر العمانية حيال الأزمات الكبرى بالمنطقة، ويؤكد مدى ثقة الولايات المتحدة في الدبلوماسية العمانية بفضل القيادة الحكيمة لحضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم - أيّده الله- ونظرا لأن السلطنة تؤكد دوما على مبدأ الحوار لإنهاء الأزمات، فقد احتضنت مسقط في أوقات سابقة مباحثات بين أطراف الأزمة في اليمن، سواء من جماعة أنصار الله أو من جانب الحكومة اليمنية. المساعي العمانية برهنت على أنّها لا ترمي إلى الوصول لنتيجة معينة، فمسقط تقف على حياد تام بين مختلف الأطراف، فهي قبلة لمن ينشد السلام، وواحة استقرار وأمان لكل من قصدها ومن يعيش على ترابها.
ومما يؤكد حيادية الدور العماني في هذه الأزمة؛ أنّ السلطنة عندما تقوم بأي دور لإحلال السلام وتقريب وجهات النظر بين الأطراف، لا يتم ذلك إلا بناءً على دعوة الأطراف المختلفة لعُمان كي تشارك بحكمتها وحنكتها السياسية في تحقيق السلام المنشود. ولا شك أنّ هذه السياسة القائمة على الحياد الإيجابي، أرسى قواعدها المتينة جلالة السلطان المعظم - حفظه الله ورعاه- فباتت أنشودة السلام يتغنى بها الجميع في مسقط، وحمامة السلام تُرفرف بغصنها الأخضر فوق الأراضي العمانية، ومتى ما حلّت الأطراف المختلفة على عمان إلا وغادرت بمسودة اتفاقية للسلام أو اتفاق على استئناف المباحثات والانتقال لمرحلة متقدمة، وذلك كله بفضل الدعم السامي لمثل هذه الجهود.
السلطنة لم تكتف فقط بجهود إحلال السلام في اليمن عبر التوفيق بين الفرقاء، بل إنها تقدم جهودا إغاثية وإنسانية عديدة، فقوافل الإغاثة البرية والجوية والبحرية التي ترفع العلم العماني كانت حاضرة في مختلف المحافظات اليمنية، والأشقاء من أبناء اليمن يتواجدون هنا في عمان من أجل الاستشفاء أو العمل، فكانت عمان الملجأ الآمن والملاذ الوحيد الذي يوفر لهم الطمأنينة والراحة.
اليمن في داخله يعاني في الوقت الراهن من تحديات عدة، ليس أقلها الغياب الواضح لدور الدولة، سواء من حيث فرض النظام العام أو مواصلة جهود التنمية، وما أحوج اليمن إلى هذه الأدوار، فالجميع يدرك حجم الاقتصاد اليمني وطبيعة موارده المحدودة، رغم ما يتمتع به من مقدرات لو تمّ استغلالها على النحو الأمثل لوفّرت له وضعا اقتصاديا أفضل، فضلا عن الكوادر البشرية التي إن أتيح لها المجال للإبداع والعطاء فستقدم كل ما من شأنه أن يوفر معيشة ووضعا أفضل لليمنيين، وسيعود اليمن حينئذ سعيدًا.
ولكي نضمن انقشاع غُمّة الحرب عن اليمن، يتعين إضافة إلى جهود إحلال السلام العديدة، أن يتخذ طرفا الصراع مجموعة من الإجراءات، في مقدمتها أن يعلن كلا الطرفين وقفا كليا لأي عمليات عسكرية أو مواجهات مسلحة، وأن يتم نزع السلاح عن غير العسكريين النظاميين المنتسبين للقوات الحكومية، وأن يعلن كل طرف رفضه تدخل أي دولة إقليمية في الشأن اليمني، إلا لإحلال السلام وتقريب وجهات النظر، وأن يتم فتح المجال أمام المساعدات الإنسانية والإغاثية، وتسيير قوافل طبية لمواجهة تفشي الأمراض الخطيرة، واتخاذ ما يلزم من تدابير تساعد في القضاء على الأمراض، وجلوس جميع الأطراف اليمنية على مائدة تفاوض داخل الأراضي اليمنية أو في بلدان محايدة، للاتفاق على وضع صيغة لخارطة طريق توافقية فيما بينهم، ومن ثمّ دعوة المجتمع الدولي لدعم جهود إعادة الإعمار وبناء ما هدمته الحرب.
وختاما نؤكد أنّ الدرس اليمني يقدم العبر والدلالات البالغة الأهمية، في مقدمتها أهمية اللحمة الوطنية في مواجهة الأطماع الخارجية، وأن جهود التنمية هي الوحيدة القادرة على حماية كيان الدولة، فلا عسكرة المؤسسات وتسليح القوات بالمليارات يكفي لحماية الدولة، بدون جهود للتنمية تواكب المتغيرات وتلبي احتياجات المواطن؛ كما أنّ التدخل الخارجي في شؤون الدول يفضي إلى عواقب وخيمة، ولذا كانت السياسة العمانية ترسخ على الدوام مبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، باعتباره أم الشرور.