علي بن كفيتان بيت سعيد
يحكى في القصص الشعبية الكثير من الروايات التي تطابق الواقع تارة والخيال تارة أخرى ويستلهم منها الناس عبر خالدة حيث ترمي لمُعالجات اجتماعية عميقة يعاني منها الفرد ويكتوي بها المجتمع بمرور الزمن ولذلك فإنَّ الموروث القصصي للشعوب يظل مخزوناً من الألم والفرح معاً ومن الروايات الخالدة في ظفار قصة بنات سيرح التي سوف نسردها لكم هذا الأسبوع.
يحل المساء في المكان حيث عائلة مكونة من الراعي وزوجته وأبنائه وجدة الجميع عجوز لا تكل ولا تمل من خدمة بنات سيرح؛ إنها سلالة أغنام أصيلة يُقال إنهن يلدن التوائم ويجزلن عطاء الحليب فيشرب منهن القاصي والداني لأن الراعي اختار أن يكون مقامه على قارعة الطريق ليكرم الناس وأثناء الرعي نهاراً يتوافد عليه من طوى بطنه الجوع وأعياه العطش وإن لم يجد إناءً يكرم فيه ضيفه يحلب في إحدى الصخور المجوفة ليهنأ الضيف وتحل البركة على بنات سيرح.
يقصده من لديه القليل من الأغنام ويضعها معه كأمانة فيقوم عليهن ويحفظهن ليعود صاحبهن ويجد أنه أصبح يملك قطيعاً بعد عدة أعوام إنها البركة أينما حلت فالرجل وأفراد عائلته لا يتوارون عن معروف رغم شظف العيش وقسوة الحياة فكانت الناس تتواعد إلى بنات سيرح، فالقادمون من المدينة يبيتون ليلتهم والنازلون من الريف يأتون في الصباح ليتزودوا قبل الذهاب للمدينة والرجل لا تفارق وجهه الابتسامة والترحاب بكل القادمين والمغادرين وكذلك كل أفراد عائلته وأمه العجوز التي ربته على هذا النمط مع العيش الكريم.
في أوقات الجوع والعوز يسود النهب في المُجتمعات التي تعجز عن إيجاد البدائل فيأكل القوي مال الضعيف فتجد اللصوص يتربصون في كل مكان وأغلب السرقة والنهب تكون من المواشي ولا بد للراعي من حذر دائم ليلا ونهارا من هذه الذئاب البشرية فتجد جميع أفراد الأسرة مستنفرين عندما ترعى بنات سيرح رغم أنَّ الرجل يكرم الجميع ولكن الحذر واجب في كل الظروف ففي مرتين سابقتين تمكن اللصوص من سرقة غنمتين وفي الغالب اللصوص يجاهرون بفعلتهم عبر وصفهم لطعم لحم بنات سيرح اللذيذ وسط مجالسهم.
في هذه المرة رأت الزوجة اللصين وهما يذبحان الغنمة الثالثة تحت الأكمة غير بعيد بينما كان زوجها يعتلي شجرة يقوم بتقليم أغصانها للقطيع فالرجل منهمك بإطعام الأغنام والمتربصون استغلوا الفرصة فأخبرت الزوجة الرجل بما حدث فنزل من على الشجرة وأخذ بندقيته وصوبها إلى اللصوص وأخبرهم بأن عليهم وضع اللحم أرضاً وإلا أطلق عليهم النار فرد عليه أحدهم بكل برود بأنهم جائعون وغنمة واحدة لن تنقص هذا القطيع الكبير قال لهم لقد تكرر هذا الفعل المشين منكم مرتين وهذه الثالثة ولن أغفر لكم هذه المرة فقال له أحدهم أفعل ما تشاء وذهبا في طريقهما فأطلق الراعي رصاصته التي أردت أحدهما قتيلاً فكان عليه أن يستجير حسب العرف المُجتمعي السائد أنذاك وإلا أصبح هو وعائلته فريسة سهلة للمغيرين من أهل اللص المقتول وشركائه.
في العادة رحلة طلب الاستجارة العرفية تحتم الوصول للمكون الاجتماعي الذي ينتمي له القتيل وهم من يمنح الحماية لمدد مختلفة أقصاها عام واحد وفي تلك الفترة يتم التفاوض لتسوية الأمر ودياً لكن الرجل تطلب منه السفر بعيداً لهذه المهمة فجاء المغيرون من بعده وأخذوا كل بنات سيرح ولم يتركوا للأسرة شيئاً وهنا ساد حزن عميق بينما كانت العجوز لا تبدى اهتمامًا بالغاً لما حدث وفي المساء ذهبت إلى الزريبة الخالية وقامت برمي البعر داخلها وهي تنادي (سيرح.. سيرح) وتناجي ربها قائلة يا ربي إنّ بنات سيرح كنَّ على قارعة الطريق صدقة جارية لكل جائع فكنا نطعم منهن كل عابر سبيل ابتغاء مرضاتك فيا ربي إن كان عملنا خالصاً لوجهك فأحفظ بنات سيرح ونجنا من هذا الكرب العظيم.
تحكي الرواية أنَّ النهب وصل إلى عين ماء يرده أناس كثيرون فأقدم الناهبون على ذبح الأغنام بشكل عشوائي للناس تشفياً في صاحبها وهنا قدم رجل من إحدى الأنحاء ورأى المشهد أمامه فصاح بأعلى صوته أنه يجير كل بنات سيرح من الذبح وقام بحشو بندقيته وأمر النسوة أن يجمعن بنات سيرح المعروفات بوسمهن على الأذن اليسرى إليه وفي اليوم التالي عاد القطيع كاملا إلى أهله واكتشف الناس أن الأغنام التي ذبحها المغيرون على عين الماء لم تكن من بنات سيرح بل من الأمانات التي كانت عند الراعي الكريم. فعقد الصلح وتكفلت بنات سيرح بدفع الدية وتعويض المُتضررين الآخرين ولا زالت السلالة تائهة في جبال ظفار بعد رحيل العجوز.