كيف نقرأ نصا شعريا نثرياً بوصفه فعلا خلقا تاليا


سمر محفوض – شاعرة وناقدة وإعلامية - سوريا


الشعر هو ذلك الإرباك الذي يجتاحنا أمام بياض الصفحة وبمعنى أشد إمعانا ,هو ذاك العطب الذي يمسك بالروح والمخيلة  حين نريد التعبير باللفظ عما يدور بطاحونة الفضاءات التي هي المفردة الشعرية أو حين ندفع لشرح أحوال المخيلة التي هي النص  -أو التعبير عن الأشياء البسيطة بلغة معرفية حيث الكتابة  مزيج غريب من معادلة الكشف والانكشاف دون إقحام بل بإقامة تلك العلاقة العالية التواصل مع المخيلة دون إسقاط شرط الدهشة الذي هو عماد الكتابة الشعرية النثرية ..  هناك مقولة مفادها أن سياج النثر منخفض يغري الجميع باجتيازه, ولكن  سقفه عالي لا يطاله إلا مبدع عميق ومتمكن من أدواته ,والشاعر ليس مسئولا عن شرح رؤيته أو مقولته , وينتهي دورة بانجاز النص ,لان الشرح هنا يوازي المبضع والتشريح وهذا حتى بالتوصيف السيميائي خارج حدود الشعر ( قد يناسب غرفة في مشفى) لكنه في الشعر  يفسد المعنى فهو يقتل الجمالي ويفتت غنى النص ويضيع مفاتيح المفردة ’ويدفع الشاعر للبحث والانشغال بالشرح والمعنى التحطيمي للشعرية  حسب مزاج الجمهور , و إهمال الإبداعي من انشغالات الروح  بالكتابة عن مستوى التلقي
(*) أبو تمام الشاعر المجدد سأل عن شعر ألقاه أمام مجموعة قيل له (لماذا لا تقول ما يفهم ..فرد ولماذا لا تفهم).
(*) الأسئلة الأكثر تعقيدا  هي كيف ندفع بالمتلقي ليكون شريكا بإعادة إنتاج النص  دون تفكيكه  ودون تبديد لبكوره الفطرة  الأصلي -أسوء ما ينال النثرية عبر التلقي هو إفراغ محتوى ما تحمله المفردة  , بشكل آلي من احتشاد  الحركة والحرية ومحاولة إسقاط النص على ذهنية التلقي  يقول الشاعر التونسي  رحيم جماعي
(تصعدين السّطح...\على حين قلق قديم\وتضبطين قلبي الجائع\طفلا متلصّصا...\على حين نافذة وباب.\ لو نظرنا إلى هذا النص القصير  كخروج من المتخيل \الزمكانة\   حيث حركة الدلالة البصرية عبر المشهد الذي يؤسس لفعل الارتقاء إلى مستوى  المتخيل بجملة\ تصعدين السطح \ والتي تعني الآنية واللحظية وتقاطع الحسي , ليصدمنا بصفة الوهمي المتواتر والعتيق الممض بعبارة\على قلق قديم\ ثم يعود بنا ثانية إلى الواقعي المحكوم بشرطه اليومي بجملة \على حين نافذة وباب\ليبق فعل التلصص تمردا وخروجا عن حالة الشعرية نحو الاستيلاء أو مراقبة العالم عبر المخيلة وعدستها المركبة والخاضعة لجنوح الشاعر وعوالم طيرانه المرتبط للأسف بذهنية المتلقي والذي عليه بالضرورة أن يعيد تشكيل المشهد ربما على  تراتبية العودة إلى الفقد والنقصان \ وتضبطين قلبي الجائع\طفلا متلصّصا...\ الذي يحاول ان يكتمل عبر نقصانه  ملويا عنق المخيال لصالح  المثبت واللوحة والتصوير وأن يكن عبر \ على حين نافذة وباب\ أي الحضور المقنن وهذا لاشك تفتيت لوحدة الصورة السينوغرافية والتي يعتمدها النثر لإيصال محمولة وإخضاعه لذائقة التلقي ..ما الحل ..؟
هل نقف عند حد القطيعة ونترك للقارئ خلق نص موازي يغتال النص الأصلي أم نجسر الفراغ عبر أدوات التلقي ذاتها (حيث أن الفكرة النبيلة لوحدها لا تكفي بل نحتاج بالضرورة لأدوات نبيلة لتنفيذها)
(*) إذن نحن هنا نسعى نحو قراءة إبداعية تشاركيه,  تجعل القارئ مشاركا في صنع جمالية الصورة الكلية –و لا يمكن الحديث عن النص المنفصل أو المتعالي فكل الكتابة متعالية  ,خاصة ونحن غالبا  نعاني من ضلالات فهم قصيدة النثر أو النص ,منها تلك الحالة التي خرجت من أسر الالتزام والإلزام ب ما يدعى جماليات الإيقاع الداخلي والخارجي  
(*) هندسة الصور الشعرية تتم عبر تراكيب تؤهل لخلق قيم جمالية جديدة  وهي المشهدية أو المجاز الكلي الذي يجهزه النص للمتلقي, حيث يبدو الشاعر هنا غير متورط في البنية الجزئية  للفهم عند الأخر  بل يقف رائيا وراصدا للمشهد من خارج البناء المتخيل
الشاعر د. جمال نصاري -  عبادان إيران
(أيها الأطباءِ\لا تخدشوا اناملها\هي تعزف علی وجهي\أنشودة الحب و البقاء\و أنا احمل لغة الشعر\و لغة الجروح ) من ديوان الجريمة،
هنا يمكن للمنبر أن يكون صديق وموصلا حياديا بين الشاعر الذي حدد خواصه الأسلوبية واعتمد  علی أساسها الخروج من الزمن وترك المتلقي واقفا لأطول فترة  ممكنة ليعيد صياغة اللحظة التي عناها الشاعر ، و تبيان ملامحه الخاصة.
 إنما مايعيب النثر اليوم أيضا هو تلك الخفة  أو الاستخفاف والاستسهال الذي يتعامل معه به الشعريون الطارئون على اللغة والمفرطين بالدهشة على اعتبار أنها أحد عناصر ومعايير النص النثري (أنا....\حفنة من
الرماد\بعثريها بأصابعك\حتى تشتعل\جذوة جنوني الخامدة..) - العراقي لطيف الشمسي....
إشارة إلى تأكيد هوية النص  ,فإن استخدام مفردات يومية ببعض النصوص يقطع التواصل مع الدهشة التي هي عماد  النثرية  
 (كفاك قسوة أيتها الحياة\خذي بعضاً من حنان قلبي\كفاك نصراً\وكفاني هزيمة\كفاك ضحكا\كفاني بكاءا\كوني منصفة معي\ودعينا نتعادل قليلاً!)- زهرة الياسمين حنين -سورية
(**) مما لا شك فيه أن النثر هو ساحة  الذاتية  والفردية, ولست اعلق الآمال كثيرا على الجمهور الذي يتعامل مع النص النثري على انه خاطرة خاصة ,والنثر في غالبيته ليس منبرياً  بل  أن  التشكيلة المشهدية  التي تتكون في الذاكرة والمخيال وتنتقل  إلى ذهن وفضاء المتلقي عبر بصره لا سمعه وهذا يشير إلى انه في غالبه بصريا  حتى في اشد تنويعاته اللغوية غرابة ...
\ بينما كنت لا أفعل شيئاً”\رحت أحاول كتابة هذه القصيدة\عن لا شيء أفكر به\رحت أكتب هذه القصيدة\لا شيء أمامي على الطاولة
\لا شيء في يدي\لا شيء على حافة فمي\بينما كنت لا أفعل شيئاً\
كان الليل يوشك أن ينقضي\وكانت السماء\قد أضاء خدها الشرقي
\دم معدني\نعم… أستطيع القول\دم أحمر معدني\
-    من ديوان داكن ..منذر المصري- سورية
قلة معينة من شعراء النثر تمكنت من استنطاقه منتجة نصا موازيا للإبداع يفي مقومات الشكل الفني حقه , فيصلح  ليكون  منبريا بينما الصورة الشعرية النثرية  في دفقتها البكر  تحمل الفعل والانزياح وتستخدم  الرمز أيضا  وبالتالي  يصعب تلقيها عبر المنبر.. من نصوص الديوان .. (الحرب خدعه بصرية)
لا طعام يُطهى هنا\هنا لمدّ الموائد ..والحطب.\لا صوت\حبال مُدلّاة فقط..
\لا فرس هنا\هو صهيل الشهوة يسابق كل الكبت التاريخي..\لا أنت هنا بقاياك فقط\وما خلّفه القهر فيك\لا هنا ..ولا هناك أنا\مازلت فكرة تدور في رأس ثملٍ بلا نبيذ\ربما كان الله هنا ..لكن أغلب الظن \أنه ..خرج ..ولم يعد\ الشاعرة لجينة نبهان
علينا تقبل حقيقة أن النثر لغة التعبير عن اليومي والمعاش وعن الفردية . والبحث عن الذات والنثر  غالبا لايحتمل ألا قارئ وحيد هو أنت  على مستوى المعنى  أحيانا وفي مرات قليلة يكون الأخر الذي يعيد إنتاجه  عبر التلقي بعيد عن سمات ولادته الأصلية  ,( الشيءُ الذي يرفع كلتا يديهِ إلى السماء\و لا يصلي لشيء ..\و يركض بلا أرجل\كغصن يابس تركله ريح ..\و يشتاقُ\أنْ يخرُج بآخر خيالاته من كل الأرض\لينطفئ \مثل غبار لا ذكريات في دمه ..\هذا الشيء\أنا)نعمان_رزوق
 هذا يعني أن نحول النص إلى مجموعة أسئلة وبالتالي تقسيم النص إلى مجموعة مضامين والبحث عن دلالاتها’ واستيلاد مضامين جزئية  على المستوى الانطباعي (الشيءُ الذي يرفع كلتا يديهِ إلى السماء\و لا يصلي لشيء) ,للربط بين التشبيه والاستعارة (كغصن يابس تركله ريح ..\)  مساهما في تبديد في هيكلية بناء النص (مثل غبار لا ذكريات في دمه ) ومقحما التشكيل اللغوي في جماليه تصوراته عبر الإيقاع -الكليغيري \البصري- (و يركض بلا أرجل)( أنْ يخرُج بآخر خيالاته من كل الأرض\لينطفئ \ ) ليعود بنا إلى أصل الفراغ أو اشتباك الظل بجملة (هذا الشيء \أنا) هنا تتحول الأسلوبية والتداولية ,إلى فكرة الشعرية التي تخدم الصفة ضمن القيمة المولدة لها  بل هو دفع المتلقي ضمن فعل التلقي البصري إلى بناء نصه الذي يشكله عبر النص الضمني المتكون دون إكراه أو إقسار معرفي مسبق ,أو عسف ذهني مفترض( الشارعُ الطويل ُ يحتاج ُ للغناء .\والصبي ،\يطارد ُ الفراشة َ في منخفض
الوردة ،\ليدخل َ العروق َ\مقصفاً\مقصفاً .)أسعد الجبوري -العراق
 من المؤكد أن كل إغراق في شرح الشعر هو فعل خسارة جزئيات التقاط اللحظة الحميمة ُ (يُـعرفكم بنفسه ،\أمهر َ \السباحين وأطولهم\غطساً .\إنه الغريق,)أسعد الجبوري
يؤكد(ف.دي سوسيور)  أن تطور اللغة, مشروط بظواهر الكلام وهذا يعني أن مدلول الكلمة يتغير تبعا لحالات,ووظائف التعبير المتصلة بها, من تركيب الجمل , وتكوين العبارة. فالشيء الذي يتطور دون انقطاع وبشكل لا إرادي هو الكلام. وهذا سوف يؤدي بالضرورة إلى تطور اللغة عموما ولغة الشعر خصوصا ..
(***) أخيرًا
 يمكن للكتابة أن تمنحنا ذواتنا او تقربنا منها على اقل تقدير عبر النص بولادته البكر ويمكن أن تسقطنا من شاهق  حيث التلقي  يعيد رسم الإيقاع بعيدا عن حكايتنا الأصلية –، بحيث تصنع فضاء شعرياً  تاليا يعيش مستقبلاً، ويمكنه تقديم اقتراحات بالنسبة إلى المخيّلة واللغة والدلالة والموضوع والبحث عن كينونتها،.وهي إبقاء حركة الخيال نشطة وحيوية.

 

تعليق عبر الفيس بوك