ذكرى لا تغيب عن الذاكرة

 

عبد الله العليان

في حياة الإنسان تمر الكثير من الأحداث؛ فبعضها لا نتذكره أو أنه يختفي تماماً من الذاكرة وكأنه طيف أو حلم، مثل الكثير من الأطياف والأحلام، وبعضها الآخر يبقى ثابتًا ويُسترجع بين الحين والآخر؛ حيث يُختزل في الذاكرة ولا يغيب عنها أبدا مهما مرت من أحداث جسام في حياة المرء؛ فالأحداث في الحياة تمر مثل مر السحاب، لكن الحدث المهم في ذاكرة الإنسان يبقى ولا يُمحى، وذكرى 23 يوليو في حياة العُمانيين، حدث فارق وخالد، لأنه حقق الحلم لهذا الشعب في التغيير المنشود، الذي طالما كان هاجساً وحلماً، تغنى به العمانيون، بل بعضهن شدوا الرحال إلى خارج البلاد من أجل العيش الكريم، والبعض الآخر اتخذ وسيلة التغيير بالقوة المسلحة، لما هو أفضل مثل بقية الشعوب والأمم في هذا العصر، كنا نحن -جيلنا- آنذاك نسمع من الجيل الأكبر منا سنًّا، في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي حال بلادنا عُمان والظروف القائمة، ما يجري في عُمان عموماً وظفار بالأخص، حيث كانت الثورة على أشدها في الجبال، والأوضاع تزداد صعوبة واضطراباً في أغلب المدن العمانية، وغالبية العمانيين في الداخل والخارج، وصلوا إلى مرحلة صعبة؛ حيث إن الأمور لم تعد تطاق معيشيًّا، وفي تلك الفترة سمعنا أن جلالة السلطان قابوس عاد للبلاد بعد إنهاء دراسته النظامية والعسكرية، وجولاته في عدد من دول العالم للتعرف على حياة هذه الدول، والمعرفة عن قرب على النظم السياسية الإدارية الحديثة.

كان جلالته بعد عودته يتابع الأوضاع السياسية والاجتماعية في بلادنا باهتمام كبير، ومنها كيف تخرج عُمان من هذه الظروف والتحديات؟ ومنها مشكلة الثورة في ظفار، وكيفية إنهاء هذا الصراع الذي أصبح ضمن الصراع الدولي في فترة الحرب الباردة، مع أن جلالته -حفظه الله- له رؤية ثاقبة في إنهاء هذه المشكلة، فليس بالقوة فقط تنتهي الثورة، بل بالقضاء على الأسباب الدافعة لها، وكسب القلوب مقدم على الكثير من الوسائل التي لن تحقق الاستقرار المنشود، الذي يأتي بالسلام والاستقرار لهذا البلد، ومحو مخلفات الماضي، وهذا ما انتهجه جلالته، عندما تولي مقاليد الحكم في الثالث والعشرين من يوليو 1970. ومع أنه واجه تحديات كبيرة، بسبب أوضاع التخلف والتراجع على كل المستويات في السلطنة، وأيضاً الثورة في ظفار في منتصف الستينيات وبداية السبعينيات، إلا أنه استطاع أن يطوي آثار هذه التحديات، بحِكمة وعقلية فذة، إذ ركز على ضرورة تحقيق الوحدة الوطنية، ودعا الجميع إلى بناء عُمان الحديثة، وفتح صفحة جديدة، وترك الماضي وآثاره، تحت شعار "عفا الله عما سلف".

وأتذكر حديث جلالته لصحيفة "الأنوار" اللبنانية في 22 مارس 1973، عن كيفية الحل في ظفار، فكان رداً حكيما ومنطقيًّا في أسلوب المعالجة، إذ قال جلالته: "إذا كان القضاء على الثورة يعني القضاء على أشخاصها، لكان الأمر سهلاً. كنا أرسلنا طائرتنا وجنودنا وقصفنا ودمرنا كل ما له علاقة بها. لكن هذا غير معقول. طريقتنا للقضاء على الثورة هي القضاء على أسبابها، وهي توعية الناس بتعمير ظفار، وبناء الطرق والمستشفيات والمدارس.. أسباب الثورة في الماضي كانت مشروعة، لم تكن هناك من وسيلة للتعبير إلا حمل السلاح والعنف.. اليوم تغّيرت الأمور، بدأنا نوفر فرص التنمية، ساعين إلى التعاون مع الناس فاتحين أبوابنا للشكاوى.. اقتلاع أسباب الثورة يحتاج إلى إضعاف وقت نموها".

وخاطب جلالته من له علاقة بالثورة آنذاك، ليُسهموا في بناء وطنهم، في مرحلة جديدة ومهمة، فعُمان تحتاج لكل أبنائها، فقال جلالته مخاطبا هؤلاء في العيد الوطني 1973: "عودوا إلى وطنكم، واستأنفوا حياة البناء والتعمير؛ فإنَّ ظلام الأمس سيتحول إلى نور، وإننا جميعا نواجه مسؤولية تاريخية أمام هذا الوطن. وعلينا واجب التكاتف لبناء الدولة الحديثة. وقد استجاب المخلصون لهذا الوطن، فهرعوا إلينا من كل حدب وصوب، كل يشارك بجهوده ويتحمل مسؤوليته لينال شرف المساهمة في خدمة بلاده".

وبالفعل، تحقَّقت لعُمان روح الوحدة الوطنية التي تمثل القوة للوطن والأمة، وعاد الجميع إلى وطنهم، وبدأت مرحلة جديدة من البناء، واستِعادة ما فات بلادنا من تخلف وتراجع في كافة جوانب التنمية والتقدم، وتم تأسيس الدولة العمانية على أسس جديدة.

فعندما نسترجع ذكرى يوم النهضة العمانية الحديثة، ترتسم أمامنا الكثير من الذكريات التي عشناها، والتي رفعت عن العمانيين الكثير من قائمة الممنوعات، وأتذكر عندما خرجنا للشوارع في مدينة صلالة في ذلك اليوم المجيد، ابتهاجاً بتولي جلالته مقاليد الحكم، وبدأت صفحة جديدة في تاريخ غمان الحديثة.. كان يوما استثنائيا، وسيظل يوماً خالداً في ذاكرة عُمان.