حُروب ترامب الجمركيَّة

 

محمد أنور اللواتي*

mohdlawati@gmail.com

اتَّسَمت السنوات القليلة الماضية باتساع سطوة الحركات الانفصالية والقومية، وامتداد نفوذ أتباع الحمائية التجارية، بعد سنين من اعتبار خفض الحواجز التجارية والسياسية، وتبني مبادئ التجارة الحرة من مسلمات الاقتصاد الحديث، وأحد مُسبِّبات توفير الرخاء الاقتصادي، والسياسي، وتحقيق الأمن الوطني. فيما اختلفت حِدَّة تأثير الحركات الانفصالية والقومية، وأتباع الحمائية التجارية، إلا أنها جرفت عددا كبيرا من الدول، والتي كانت حتى وقت قريب من دعاة تخفيف الحدود السياسية والقيود الاقتصادية بين الدول، وتبني مبادئ التجارة الحرة.

صعدت الكثير من الأحزاب اليمينية، والقومية في الكثير من الدول الأوروبية خلال السنوات الأخيرة،  كما وصل دونالد ترامب، ممثل الحزب الجمهوري، إلى منصة الحكم في الولايات المتحدة متخذًا شعارات منها بناء جدار مع المكسيك، وطرد المهاجرين غير الشرعيين، وحظر دخول المسلمين. واشتدت شوكة الانفصاليين حول العالم مثل كتالونيا في إسبانيا، وإسكتلندا في بريطانيا، وكيبك في كندا، وكردستان في العراق، والجنوب في اليمن، ونجحوا في إنشاء دول مستقلة كما في تيمور الشرقية وجنوب السودان. كما ازدادت قرارات أو تهديدات الخروج من التكتلات الاقتصادية والسياسية مثل قرار بريطانيا -بناء على نتائج تصويت عام- الخروج من الاتحاد الأوروبي فيما يُعرف بالـ"بركست"، وقرار الولايات المتحدة الخروج من عدة تكتلات اقتصادية كما سيأتي.

الولايات المتحدة الأمريكية قُطب الرأسمالية العالمية وأحد أبرز دُعَاة تحرير التجارة حتى وقت قريب، يقف رئيسها اليوم ضد الاتفاقيات والتكتلات التجارية الموقعة بين بلده وبلدان أخرى حليفة وصديقة. بدأ الرئيس الأمريكي ولايته بإلغاء بعض الاتفاقيات الدولية، والضغط نحو تعديل أو إلغاء جزء آخر. فقد انسحبت الولايات المتحدة من نقاشات اتفاقية الشراكة التجارية والاستثمارية العابرة للأطلسي بين الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وانسحبت من اتفاقية الشراكة التجارية عبر المحيط الهادئ، التي تضم اثنتي عشرة دولة منها الولايات المتحدة. كما يجري إعادة التفاوض على اتفاقية النافتا بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك، والتي هدَّد الرئيس الأمريكي بالانسحاب منها ووصفها بالكارثة، نظرًا للعجز في الميزان التجاري لصالح المكسيك وكندا.

آخر تلك الشطحات الأمريكية كانت في فرض الرئيس الأمريكي ترامب رسوما جمركية بنسبة 25% على واردات الصلب، و10% على واردات الألمنيوم العالمية. كما أعلنت إدارة ترامب فرض رسوم جمركية على أكثر من 1.300 منتج صيني قيمتها الإجمالية 50 مليار دولار بنسبة 25% بحجة سرقة الصين لحقوق المليكة الفكرية والتكنولوجيا، مُحاولًا تقليص العجز في الميزان التجاري مع الصين والمقدر بـ375 مليار دولار في العام 2017. فور إعلان الرئيس الأمريكي الرسوم الجمركية الحمائية على المنتجات الصينية، أعلنت الصين فرض رسوم جمركية انتقامية بنسبة 10% و25% على منتجات أمريكية محددة ردًّا على رسوم الصلب والألمنيوم، ومن ثم فرضت رسوما جمركية بنسبة 25% على 659 سلعة إضافية أمريكية قيمتها الإجمالية 50 مليار دولار تشمل السيارات ومنتجات زراعية وكيميائية، متبعة سياسة العين بالعين. مما دفع ترامب إلى التهديد بفرض رسوم نسبتها 10% على سلع صينية إضافية قيمتها 200 مليار دولار.

الاتحاد الأوروبي الذي كان يأمل إعفاءه من الرسوم الجمركية الأمريكية على الصلب والألمنيوم، فرض رسوما جمركية انتقامية بنسبة 25% بعد أن باءت جهوده بالفشل على سلع أمريكية تقدر قيمتها بـ3.2 مليار دولار كمرحلة أولى. أما كندا، الجار والحليف السياسي والتجاري التاريخي وأكبر مصدِّري الصلب والألمنيوم للولايات المتحدة، فقد أعلنت عن رسوم جمركية انتقامية بنسبة 25% على سلع أمريكية. وفي المقابل، قالت روسيا إنها بصدد فرض رسوم جمركية انتقامية على منتجات أمريكية بنفس القيمة ستطال الواردات الأمريكية التي لها نظائر في روسيا وفقًا لحقوقها الممنوحة في إطار منظمة التجارة العالمية. كما أعلنت دول أخرى مثل المكسيك والهند والبرازيل عن فرض رسوم انتقامية على المنتجات الأمريكية. دول مجلس التعاون -التي تُنتج 17% من إنتاج العالم من الألمنيوم- تصدر الألمنيوم، وأيضًا الصلب بكميات أقل للولايات المتحدة. ولم يتسنَّ معرفة أي رسوم مقرَّرة ستطبقها دول مجلس التعاون حتى الآن، خصوصًا وأنَّ السلطنة والبحرين أبرمتا اتفاقية تجارة حرة مع الولايات المتحدة. إلا أن المجلس الخليجي للألمنيوم أعرب عن أمله بإعفاء دول الخليج من الرسوم الأمريكية. محليًّا، أعربت شركة صحار ألمنيوم -المصدِّر الوحيد للألمنيوم في السلطنة- أنها ستتأثر من الرسوم الأمريكية بطريقة غير مباشرة عن طريق الأسواق الإقليمية التي تنشط فيها الشركة؛ حيث إنها لا تصدر إلى الولايات المتحدة.

ورَغْم تركيز الحرب التجارية الجارية على القيود الجمركية في التجارة الدولية؛ فهُناك قيود أخرى غير جمركية كالدعم المحلي لبعض السلع الوطنية، وأنظمة الكوتا، والعقوبات، والتأخيرات البيروقراطية المتعمدة...غيرها. وبعد فرض الولايات المتحدة للرسوم الجمركية، قامت السلطات الصينية، وفقًا لبعض الأخبار الصحفية، بتأخير البضائع الأمريكية في الموانئ الصينية، وكثفت الفحوصات "العشوائية" على المنتجات الأمريكية. كما أن المخاوف بهذا الشأن لامست الكثير من الشركات الأمريكية التي باتت تترقب الخطوات القادمة. وتسير وتيرة الحرب التجارية هذه بشكل متسارع وبمتغيرات يومية.

ورغم أنَّ الولايات المتحدة قد تستطيع بهذه الخطوات تقليص العجوزات الفلكية التي تحققها خلال الأمد القصير؛ حيث بلغ إجمالي الدين للدخل القومي الأمريكي 105%. إلا أنَّ هذه القرارات من جانب واحد ستزيد من عزلة الولايات المتحدة، وستؤثر بشكل كبير على سلاسل التوريد لدى شركاتها المرتبطة بمكونات أجنبية، وعلى اقتصادها المعتمد على التجارة الخارجية، وعلى عملتها المرتبطة بالتجارة الدولية. إلا أنَّ رئيسها يصف الحروب التجارية في أحد تغريداته بأنها "جيدة وسهلة الفوز"!

هنالك أربع سيناريوهات محتملة للأزمة الحالية؛ أولها: أن تتغلب الولايات المتحدة بأن تُقْدِم الدول الأخرى، خصوصًا الصين، على تنازلات من قبيل فتح سوقها بشكل أكبر وتنازلات حمائية أخرى تصب في مجملها لصالح الميزان التجاري الأمريكي. أما الاحتمال الثاني، فهو العكس تمامًا، بأن تتراجع الولايات المتحدة عن الرسوم الجمركية الأخيرة المفروضة لتعود الأمور لمجاريها، وهذا الاحتمال الأضعف في ظل وجود الإدارة الأمريكية الحالية. والاحتمال الثالث هو دخول الدول المؤثرة في حوارات مباشرة حتى يتم الوصول إلى نتائج تقبلها أطراف الصراع الأساسية. بينما يبقى الاحتمال الأخير هو المزيد من التصعيد في الحرب الاقتصادية الدائرة للوصول إلى حرب اقتصادية شاملة، وفوضى ستؤثر حتمًا على النمو العالمي، وقد تغير قواعد النظام الاقتصادي القائم.

... إنَّ شريعة الغاب التي تغنَّى بها شوقي جلية جدًّا في الأنظمة والقوانين الدولية التي تتغير بتغير مصالح الدول الكبرى. الولايات المتحدة، ومن دون أدنى شك، تعاني من عجز تجاري يتسع كل عام. إن استمرار هذا العجز التجاري هو مقدمة حتمية لتضرر الاقتصاد الأمريكي وتأخره على حساب اقتصادات ناشئة استغلت الأنظمة الرأسمالية الحالية، والتي أسهمت الولايات المتحدة نفسها في وضعها. إن تغيير الأنظمة لتواكب مصالح الولايات المتحدة لم يعد بتلك السهولة، فلم تعد الولايات المتحدة هي الأسد الوحيد في غابة شوقي، ولم تعد دول الاتحاد الأوروبي تلعب دورَ الثعلب أو الذئب، ولم تعد دولًا مثل الصين والهند وغيرها تلعب دور الحمار. إن الأيام القادمة هي الوحيدة الكفيلة بالإجابة عن سيناريو تطور الأزمة الحالية.

تعليق عبر الفيس بوك