الكرفانات السياحية في "خريف 2018"

د. عبدالله باحجاج

بَدَأ خريفُ ظفار فلكيًّا يوم الخميس الماضي، بكلِّ هُدوء، وَلولا تقرير تلفزيوني قصير للزميل محمد السليمي، وأخبار مقتضبة في بعض الصحف المحلية، لما عَرِف البعضُ الدخول الرسمي للخريف، رغم أنَّ خريف 2018 لم يكن كسابقة الخريفيات الماضية؛ فقد جَاءَ قبل أوانِه فلكيًّا، بفعل الأمطار العزيرة المُصَاحِبة لإعصار مِكونو، ومنذ عِدَّة أيام، والطبيعة في مُحافظة ظفار تَرْسِم الابتسامات، وتُزِيل ما يَعْلق في النفسيَّات من همومِ الحياة، وهَوَاجس التداعيات التي لا حَصْر لها.

وكل من يرفع رأسه عاليا في أي اتجاه، خاصة عندما نهرب من المدن، سنجد في استقبالنا البساط الأخضر على امتداد البصر، والهواء العليل، والرذاذ البديع الذي لا يفسد عليك رحلتك الشرقية أو الغربية أو الجبلية من ظفار، والهروب من المدينة رغم نصيبها الوافر من حصة المنحة الإلهية الخريفية، سيجعلك تتحرَّر من ضغوطات الحياة، بل ستَجد نفسك حرًّا فعلا، عندما تتنفس نَسَمات الهواء العليل، وملامسة الضباب المنتشر من حولك من كل جانب، وقد كُنَّا نتمنى أن تطبق خلال خريف 2018 المقترحات التي طرحناها، وطرحها غيرنا بشأن التفاعل الحقيقي مع البداية الفلكية لكل خريف؛ فالولادة الفلكية للخريف، تستحق منا الاحتفالية بها، كما أن ذلك سينعكس إيجابا على الموسم السياحي نفسه، لكن يبدو أنَّنا لا نزال نراهن على النمطية والتقليدية في كل شيء، وخريف ظفار نموذج على ذلك، فأهم المقترحات كانت تذهب لاستحداث احتفالية رسمية وشعبية بهذه الولادة مُعطَّرة باللبان الظفاري المبارك، كتسويق له، وكدعاية سياحية تكسر النمطية والتقليدية السنوية للخريف، لكن هذا لم يحدث، وربما لن يحدث ما لم نعمل على إحداث متغيرات بنيوية في المؤسسات والفاعلين في كلِّ ما يمس القطاع السياحي الإقليمي، وبهذه النمطية والتقليدية، نخشى تفشِّي ظاهرة الكرفانات السياحية التي بدأت تنتشر في فصل الخريف، وهى عبارة عن بيوت متنقلة، وقد تطوَّرت هذه الكرفانات إلى أنْ أصبحت الكرفانة الصغيرة تساوي بيتا كبيرا، فيها غُرف موسعة، وسقف متحرك، ومطبخ، ومرافق صحية.

وهذه الظاهرة ينبغي التحكُّم فيها من الآن، وبصورة عاجلة؛ وذلك حتى لا تؤثر على العائد المالي للسياحة الخريفية؛ فهناك استثمارات كبيرة قد وجهت إلى قطاع العقارات سواء من قبل مواطنين عاديين، استثمروا في شقة أو شقتين بُغية مساعدتهم على تغطية التزاماتهم المعيشية الصعبة من جهة، أو من قبل شركات استثمرت في القطاع العقاري لدواعٍ سياحية نفعية من جهة ثانية، وكذلك هناك مُبرِّر آخر يدفعنا للتفكير في تنظيم هذه الظاهرة، وهو ما تحدثه هذه الكرفانات من تأثير سلبي على المسطحات الخضراء، فمن خلال رصدنا لهذه الظاهرة، نلاحظ عدم وجود ضوابط قانونية لهذه الكرفانات؛ فهى تختار كيفماء تشاء الأمكنة السياحية للمبيت فيها يوميًّا، حتى لو كان ذلك على مستقبل البساط الأخضر، لا يهمنا هنا من وراء هذه الظاهرة، بمعنى: هل السياحة الداخلية أم الخليجية أم كلاهما معا؟ الأهم هنا أنَّ هذه الظاهرة هي الآن خارج نطاق أية مظلة قانونية أو تنظيمية محلية، وقد لا نَجِد لها أيَّ اهتمام بها حتى الآن، بدليل ما شاهدناه في المواسم الخريفية السابقة من اختيار أمكنة سياحية غير موجهة مؤسساتيًّا، وغير مقبولة سياحيًّا، ولا تقبلها الرؤية السياحية الحضاريَّة، كأن تكون فى سهل أتين أو صحلنوت مثلا، وقد رصدنا هذه الظاهرة كذلك في فصل الشتاء؛ حيث يلجأ السائح الأوروبي الى اختيار الشواطئ لنصب كرفانته فيها، ويستمتع بالشمس والرمال الفضية، وبمياه المحيط الهندية الدافئة، دون مراعاة مجتمع القاطنين في المكان نفسه؛ مما تشاهده من مناظر مخالفة للنظام العام.

كما أن بعض الكرفانات لا تتوافر فيها المقومات السكنية السياحية المتكاملة كالمرافق الصحية؛ الأمر الذي يجعلهم يلجأون لاختيار أمكنة قُرب العيون أو مصارف العيون (الساقية)، وتشاهِد مناظر غير حضارية، لا تعكس أن هناك توجها سياحيا منتظما ومنضبطا مؤسساتيًّا، كأن تشاهد حالات الاستحمام -خاصة صبيحة كل يوم- ولنا في منطقة المعمورة قرب ساقية المياه أفضل نموذج نستدل به هنا؛ فقد زُرنا هذه المنطقة في الخريف الماضي، وهى تدفعنا كذلك للإسراع في تنظيم مثل هذه الظواهر كذلك، ونخشى في خريف 2018 أن تشكل ظاهرة الكرفانات وافتراش الأرض للنوم، والاستحمام في (الساقيات) مُشكلة اقتصادية وبيئية إذا لم تنظم بعقلانية، وحتى استمرارها كظواهر مكانية في مواقع سياحية بارزة لم تعد مقبولة كذلك، إذا كنا نهدف لصناعة سياحة عائلية مستدامة؛ لذلك فلابد من الإسراع في تنظيم هذه الظواهر فورا، ولسنا مع اتجاه المنع أبدا؛ لأن هناك صناعة متطورة ومزدهرة للكرفانات في العالم، وقد أصبحت شركات عالمية متخصصة لها، وإنما مع التنظيم؛ بحيث يُرَاعى مجموع المصالح المتضررة، وفي الوقت نفسه التناغم مع عالمية الكرفانات السياحية، كأن يكون لها شروط واشتراطات محددة، مثلا أمكنة محددة مدفوعة الرسوم، فيها من الخدمات المتكاملة مثل المقومات الصحية والبيئية ما يجعلها ظاهرة مقبولة في سياقها العالمي، وليس تركها على عشوائيتها الراهنة، ولو تركنها وفق سياقاتها الحالية، فستتأصل في بنية سياحتنا الإقليمية، وقد تنشأ على ضوئها ظواهر أخرى سلبية، كإيجار الكرفانات السياحية، وما قد يصيب قطاع الفنادق والشقق والعمارات الفندقية بالتأثير السلبي..إلخ.

خريف ظفار للعام 2018، لا يُمكن لأية أوصاف أن تعطيه حقَّه في التصوير والتجسيد لروعته وسحره، والباحثون عن الجمال الطبيعي الرباني، والهاربون من صخب المدن، والمتطلعون للتصالح بين الروح والعقل، والباحثون عن الصفاء الخالص، ستجدهم هذه الأيام بين أحضان هذه الطبيعة، الكثيرُ منهم قد تفرَّغوا عن ارتباطاتهم الوظيفية، وآخرون بمجرد الانتهاء من ساعات العمل يتجهون على الفور شرقا أو غربا، أو يقصدون الجبال القريبة من صلالة من الظهرية وحتى الليل.. يُسلمون أنفسَهم لهذه الطبيعة، ومن المؤكد أن النتيجة ستكون سيادة الجوانب الروحية على الجوانب المادية في الجسد، وسيعانقون السعادة بحواسهم الخمس، لكن متى سنوِّدع النمطية والتقليدية في تعاطينا السياحي مع خريف ظفار؟ وقضية الكرفانات التي نقدمها هنا تعكسُ لنا التداعيات الناجمة عن هذه النمطية، وهناك الكثير من التداعيات سنتناولها في حينها.