عبيدلي العبيدلي
من المقاطع اللغوية التي أفرزتها نتائج الحراك السياسي العربي الذي عصف بالمنطقة العربية خلال السنوات السبع الماضيات، وفرضت نفسها على فضاء القاموس السياسي العربي، هو "الحوار السياسي". وعرفت العواصم العربية حينا، ونظيراتها الدوليات حينا آخر مجموعة من اللقاءات التي أطلق عليها مفهوم "الحوارات الوطنية". وزخرت مكونات الفكر العربي بمحتويات احتضنت اجتهادات فكرية ناقشت موضوعة "الحوار الوطني"، من جوانبه المختلفة، بما فيها الخلفيات النظرية. القاسم المشترك بينها كان وصولها إلى طرق مسدودة، رغم ادعاءات من يقف وراءها، أو من روّج لها بأنّها نجحت في تحقيق ما كانت تصبو إليه. ترافق ذلك مع فتح الأبواب العربية واسعة، وبقرار ذاتي أمام التدخلات الخارجية؛ الدولية منها والإقليمية. فتحولت البلدان العربية المختلفة، من ساحات للخلافات الوطنية الداخلية إلى حروب بالوكالة لتلك القوى الخارجية، التي وجدت في تلك الساحات مجالا لنقل صداماتها العسكرية من بلدانها إلى الدول العربية. ولعلّ أحد أبرز علامات انسداد طريق مكاسب ذلك الحراك العربي هي وصول نسبة عالية من الضالعين في العمل السياسي العربي بشكل مطلق، إلى حقيقة مؤلمة ومدمرة؛ هي أنّ الحاضنة الثقافية، بل ربما الحضارية المعاصرة للعمل السياسي العربي غير مؤهلة وحتى يومنا هذا لإنجاح مساعي ومحاولات تحقيق مكاسب ملموسة لمسيرة تلك الحوارات الوطنية. واليوم، ورغم ارتداد موجة ذلك الحراك، ما تزال أنشطة ودعوات "الحوار الوطني" مستمرة، تجاهد، وفي ظروف في غاية التعقيد، في شق طريقها بإصرار غبر مسبوق للحيلولة دون أن تتحول النتائج السلبية لإخفاقات إلى مسلمات سلبية من شأنها إشاعة اليأس في صفوف ونفوس المواطن العربي. مساعي "الحوار الوطني" القائمة وتلك المتوقعة في المستقبل المنظور لن تكون أحسن حظا من سابقاتها، والتي عرفناها خلال السنوات السبع الماضية.
ولا بد من التحذير هنا من خطأ القفز السريع، إلى استنتاج "آثم"، يرى في مثل هذا التشخيص السريع المقتضب، نزعة سوداوية متشائمة، في حين أنها مقاربة مجتهدة، تطمح نحو العلمية في رؤية هذا الواقع؛ كخطوة أولى على طريق رصد العوامل التي قادت إلى مثل هذه النهايات من أجل وضع حد لها، إن لم يكن إحلال أخرى بديلة لها تستكشف مقومات النجاح، كي تتمكن من تفعيلها، وتتلمس مكامن الفشل كي تبادر إلى استئصالها.
ولربما تكون أول مبادرة للتأسيس لمثل هذا المدخل هو تغيير جذري مدروس لمنهج التعاطي مع دعوات "الحوار الوطني"، ومشاريعه تضمن التخلص من تلك النظرة المثالية التي تحيط بها، والتي تضعها في صيغ وفئات تميز نفسها عن مشروعات سياسية أو حتى تجارية أخرى. والقبول بأنها -أي مشاريع الحوار الوطني- في جوهرها لن تختلف عن أي مشاريع أخرى تخضع لقوانين مقوّمات النجاح، وتتأثر بعوامل الفشل. بل إنّ ما هو أهم من ذلك القبول بأن طرق الحوار الوطني، بخلاف ما يتوهم البعض، ليست قصيرة، وتقتضي ممن يدعو لها أن يتحلى بالصبر، و"طول البال"، وعدم الوقوع فريسة سهلة وسريعة لموجات اليأس التي غالبا ما ترافق جولات "الحوارات الوطني" عندما تقترب من الأبواب الموصدة التي تضعها القوى المناوئة للحوار في طريقها.
ولهذا ينبغي لمن يقف وراء أي من مشاريع أو جهود حوار وطني معين، أن يقبل بحقيقة ربما تكون مرة الطعم في فم العديد من القادة السياسيين؛ وهي أنّ "الحوار الوطني"، لا يعدو كونه في نهاية المطاف مشروعا يشارك المشاريع الوطنية الأخرى، بما فيها التنموية والتجارية. هذه الحقيقة تجعله يشارك تلك المشاريع الأخرى مجموعة من الصفات، أو بالأحرى المتطلبات التي تضمن مقوّمات نجاحه، أو تكون سببا رئيسا من عوامل فشله. وعليه، فلا بد لتلك الفئة المجتمعية، أو بالأحرى الجهة السياسية الصادقة في طرح أو تبني مشروع وطني للحوار أن تقرأ بشكل خلاق ومبتكر وثيقة "الحوار الوطني" كي تتمكن من استكشاف مقومات النجاح فتعززها، وترصد عوامل الفشل، وتسعى لتقليص حضورها، ومن ثمّ تأثيراتها، التي تصل في مراحل معينة إلى درجة التدمير.
وعلى مستوى رصد مقومات النجاح الرئيسة يمكن سرد الأكثر تأثيرًا بينها في النقاط التالية:
1. تبلور المشروع بشكل جلي في ذهن الجهة التي تتبناه وتدعو لقبوله من قبل الفئات الأخرى: فنجاح أي مشروع رهن ينضج الفكرة من أبعادها كافة في أذهان قيادات القوى التي تقف وراءها، وتحلق الجهات الأخرى المتحالفة معها حولها. وتبلور الفكرة لا يعني إطلاقا مجرد القدرة على وضع خطوطها العامة؛ بل الانتقال من ذلك وبالرشاقة المطلوبة والشمولية الكافية إلى التفاصيل الدقيقة، وهذه الدرجة العالية من النضج لا يمكن الوصول لها دون تحويل المشروع إلى نظام بيئي متكامل (Ecosystem) قابل للحياة، ويمتلك عناصر النجاح، وبحوزته مقومات الاستمرارية والنمو، والاحتفاظ بالمرونة المطلوبة التي تبيح له التعاطي الإيجابي مع أية ظروف مستجدة، أو عوامل طارئة.
2. نضج الجهة السياسية والمجتمعية المستهدفة التي تشغل الدائرة الأوسع من القوى المجتمعية الفاعلة سياسيًا، وهي التي يمكن أن تحل مكان الزبائن في المشروعات التجارية. فحصر مشروع "الحوار الوطني"، في دائرة ضيقة، ربما تتشكل من فئة مثقفة معزولة عن المجتمع، كافية لوأد ذلك المشروع، وهو في المهد. والنضج هنا يعني قبول الفئة المستهدفة بمكوّنات المشروع وأهدافه كحد أدنى، واستعدادها الطوعي المبني على قناعة أولية راسخة بجدواه أولا، والرغبة في الترويج له ثانيا، والدفاع عنه ثالثا وليس أخيرا. فمتى ما وصل المشروع إلى هذه الدائرة الواسعة من القوى المجتمعية الفاعلة في مجريات الحياة السياسية يصبح من الصعوبة بمكان تطويق المشروع أو وضع العصي في دواليب نجاحه.
إنجاح معادلة التمرد على ضيق مساحة الدائرة، تتطلب أول ما تتطلب قيادة سياسية محنكة، بين يديها خبرة غنية في إدارة الصراعات السياسية، والإبداع في المرور بين أزقتها الضيقة.