غـــــمّة

 

إيناس فتحي - ليبيا


أمّي، لقد قطعت نصف الطريق بمفردي، وأخشى أن أكمل النصف الآخر، أشعر كأنّني مهشّمة الأطراف ولا أقوى على الحركة، إنّي لا أحيى حياتي على سجّيتها، الحياة تبقّى فيها شيء لا أفهمه، فهي لم تسر على النحو الذي رغبته والذي لطالما حلمت به، تمضي الأيام ببطء شديد، وكل يوم تتكدّس الهموم على كتفيّ، أشعر بغُمّة شديدة تعتصر قلبي، ويأس يثقل كاحلي أنا مدمّرة نفسيًّا وجسديًّا. إنّي أشبه بركامٍ خلّفته حرب أهليّة، لماذا كلّ هذا، لماذا أنا دون سواي؟
أجابت والعجب يعلو وجهها: "نوضي بلا تزعبين زايد، فيقي لروحك، خيرك؟ شن صايرلك؟". أنتِ لا تعلمين حجم الألم الثقيل الموّزع داخلي يا أمّي، أنتِ تعلمين فقط عدد مرّات غسيلي للأطباق، ومسحي للأرضيّة، وإزالة الغبار من على اﻷسطح. هذا ما يهمّك، ولا تكترثين بما أشعر. ابنتك يا أمّي، ضائعة في أزقّة الكتمان، ليس لدي هدف أسعى من أجله، ولا أمل أتعلّق به، فراغ قاتل يحاصرني، لا أشعر بما حولي، ولا أحد يشعر بي، أنا أحتاج في وقتي هذا العصيب لمن يضمّني بحب وعطف كبيرين، أحتاج لمن يفيض عليّ حنانه، ليخفّف عنّي ولو قليلاً. أخرجت كل ما في داخلي لأوّل مرّة، وربّما ستكون آخر مرّة. لم أرى تعابير وجه أمّي هكذا من قبل، فلم تكن في حالة استيعاب لما أقوله.
أمّي، اعذريني على إخراجي لمثل هكذا كلمات قد خنقتني، فلم أستطع حبسها لمدّة أطول. إنّ طريق الوصول للنهاية كالنزول على الدرج؛ سريع وخاطف، والألم تجاوز هذا بكثير. لم تفهم أمّي معنى ما قلت، واكتفت بعبارة "صبّرني يا ربّي" ثم غادرت الغرفة معلنةً انسحابها. باءت محاولتي بأن تحتويني وتفهمني بالفشل الذريع ولم أتحصّل منها على كلمة تُطفئ بها النار التي بداخلي.
أسمع تمتمة أمّي في المطبخ بأنّي لست فتاة طبيعية مثل باقي الفتيات: "بنتي مش زي بناويت الناس الفالحات بالله، فالحة غير في التفلسيف وديما حابسة روحها في الدار، كان تنوض وتدير حاجة مدايرتلي العار". هكذا قالت أمي وأنا فقط أسمعها دون التفوه بكلمة، فحتّى الكلمة أصبحت ثقيلة الخروج. لم تعد لدي رغبة في الكلام، ما الجدوى من الكلام إذا كان من تحدِّثه لا يشعر بما تقوله، حتّى أمّي، اكتفيت بذرف سيل دموع فهي من تتكلم نيابة عنّي الآن.
ظلّت في ذهني أسئلة تدور وتدور رُغم ما مررت به قبل لحظات قليلة، أيمكنني العودة مجددًا إلى الحياة؟ أيمكن لجثّة هامدة أن تستنشق الأكسجين مجددًا؟ ما هو الحل للخروج من هذا النفق المظلم؟ أنا اﻵن بمفردي في غرفتي أُقاوم، انتظر من يأتي، وينتشلني من تحت اﻷنقاض، فإمّا أن أكون حيّة أو ميّتة.
ربما تحتوي الصورة على: ‏‏‏شخص أو أكثر‏ و‏لقطة قريبة‏‏‏.

 

تعليق عبر الفيس بوك