من أدبيات مكونو

 

علي بن سالم كفيتان

تناول التراث العربي قصة سعد وأخيه مالك حيث كان سعد يرعى الأغنام ومالك الإبل فتزوج الأخير ولهى مع عروسه شيئاً من الوقت وتولى سعد رعي الإبل مع الأغنام وحسب الروايات فإنَّ سعد لم يكن يعلم كيف تورد الإبل وعند عودة مالك أشفق على الإبل من فعل سعد فقال هذا البيت من الشعر الذي صار مثلاً مشهوراً فيما بعد وتناقله الناس (أوردها سعد وسعد مشتمل... ما هكذا تورد يا سعد الإبل).

عندما سمعت بفتح الطريق للغربية بعد مرور الإعصار أخذت ما أستطيع من مؤن في مركبتي واستلمت الطريق مثل الكثير من الناس إلى الغرب وأثناء عودتي لمحت رجلاً من القرى البعيدة فعلامات الوجه الغائرة ولباسه الريفي أوحى لي بأنَّ المدنية لم تأخذ منه نصيبها ومع ذلك أخذ متاعه بيد واحدة وبالأخرى عصاه القديمة ورحل باحثاً عن ملاذ ومأوى بعد أن أخذ الإعصار كل شيء، كنت واقفاً أتأمل مشيته على الرصيف فهو كما يبدو غير مُقتنع بالرحيل ولكنه رحل فربما لا مُقام في أرض تقطعت بها السبل وأصبحت فجأة قطعة من القمر، جلس إلى جانب شجرة اقتلعتها الريح على قارعة الطريق العام، الكل ذاهب إلى النجاة بينما هو يندب حظه العاثر في صمت مطبق ناقراً بعصاه الأرض التي طالما احتوته ووفرت له كل ما يحتاجه قبل أن يقبل النصيحة ويُغادر الكهف ونبع الماء إلى ما يسمى بالمدينة الرابضة إلى جوار البحر وفجأة انقطع كل شيء والكهف لم يعد كما كان والنبع جفت قطراته الباردة، النوق كذلك رحلت مع الطوفان لقد غدر بها الراعي الوافد ففرَّ بجلده وتركها تواجه مصيرها المحتوم.

قال لي بأنَّ رفيقة عمره انتقلت إلى ربها العام الماضي وشكر الله أنها لم تشهد الإعصار الذي أخذ الإبل فقد كانت تحبها وظلت تسأل عنها وتحرص على أن تراها حتى آخر أيام عمرها، هذا الغريب ذاهب إلى المجهول حسب وصفه فهو لم يزر صلالة إلا للضرورة مرة عندما ذهب للحج وأخرى لزيارة رفيقة دربه الطويل قبل رحيلها في مستشفى السلطان قابوس، اليوم بات مجبرًا على الذهاب إليها حتى تعود الحياة إلى ضلكوت الريف والجبل والمدينة الهادئة على ساحل بحر العرب، ونحن في السيارة أشار لي بأن أقف فوقفت ثم نزل تنحى جانباً ثم توجه إلى القبلة وصلى ركعتين ختمهما بدعاء رافعًا كفيه للسماء بأن تعود الأمور إلى مجرياتها، سيارات عسكرية وأخرى مدنية محملة بالمؤن متجهة غرباً.   

تيقنت أنه يكره الرحيل ولكنه لا خيار آخر بعد فقدان رفيقة الدرب والإبل أقنعته بأن نحل ضيفين على أحد سكان رخيوت فوافق بشدة فكل دقيقة تؤخره بمثابة حياة جديدة في أرض أحبها وتحبه وبمحض الصدفة أوقفنا المركبة عند بيت يبدو أنه لا زال مأهولاً بالناس رغم شدة الإعصار وجدنا الجميع في مكان واحد يوقدون نارهم ويتحلقون حولها والحليب يغلي في طرفها والشاي على الطرف الآخر رحب بنا الجميع فالظاهر أنَّ الرجل مشهور في هذه الأنحاء فالجميع يكنيه بأجمل الأسماء والصفات علمت لاحقًا من العجوز المتمركزة بالقرب من القدر أنَّ صاحبي لم يكن رجلا عادياً فقد أحبته الكثير من النساء في شبابه وأعطتني نبذة عن كرمه وجوده في أيام الضيق وفي هذه اللحظة عرفت أنني أمام شخصية بارزة ظلت تكابد الكثير من صروف الدهر.

لا كهرباء هنا ولا ماء ولا حتى اتصالات إلا عبر شركة الاتصالات اليمنية (سبا فون) التي ظلت صامدة بينما أنهارت شركاتنا المحلية مع أول زفرة لمكونو، قالوا بأنَّ الوالي لديه جهاز اتصال عبر الأقمار الصناعية (ثريا) ومن أراد التواصل مع العالم عليه الصعود إلى القمة لالتقاط ذبذبات اليمن السعيد أو الحضور إلى مركز الإيواء الممتلئ بالعمالة الوافدة وبعض الشباب الذين تركوا مكاناً للنساء والأطفال في بيوتهم التي باتت مكتظة بالأنفس ولم يقدم الرجل خدمة غير هذا الهاتف ومولد للطاقة الذي يعمل على توفير الكهرباء لمركز الإيواء حسب روايات الأهالي والكل على ما يبدو يقدر له هذا الموقف فهو أصر على أن يعيش معهم الحدث بكل تجلياته ولم يستجب لإجلائه إلى مركز عسكري قريب.

في الوقت الذي تكالبت فيه بعض الشركات في صلالة على الأودية لجمع الردميات وتكديسها تمهيداً لطحنها في كساراتها الجشعة كان عثمان (مالك شركة الرصيد) يدفع بكل معداته إلى وادي المغسيل لفتح الطريق الذي يربط ضلكوت ببقية ولايات المحافظة لم يكترث الرجل بما غرق منها فابتسامته كانت حاضرة عندما عبرت المركبات من وإلى ضلكوت وكأن شيئاً لم يكن. أما رفيق دربي فالظاهر أنَّ السيدة الطاعنة في السن أقنعته بالبقاء فالأرض أخضرت مُجدداً في وجهه وقال لي: توكل يا بني أنا لن أبرح مقامي هذا حتى يأتيني اليقين ... حفظ الله غرب ظفار الصامد فرغم المحنة لم يستجدوا أحدًا.

                                                                                                                            

alikafetan@gmail.com