بين صمت الوادي وصخب البحر.. محطات في قصة أمين دراوشة

...
...

 
د. سامي مسلم


أردت أن أكتب عن هاتين المجموعتين القصصيتين لأمين دراوشة لأن قصصه تدور في جو من السوداوية، ملفت للنظر، يقيمه أمين كجدار حول نفسه وعالم الراوي أو السارد، مع أنه يترك فرجة داخل هذا الجدار للأمل. وتحمل المجموعتان القصصيتان اسمين ذوَي دلالة. الأولى صدرت في عام 2001 بعنوان "الوادي أيضاً" والثانية صدرت في عامنا هذا 2007 بعنوان "الحاجة إلى البحر". وكذلك أردت أن أكتب عن هذه القصص تقديراً ووفاء للأديب والصديق الراحل المرحوم عزت الغزاوي، الذي أصدر المجموعة الأولى "الوادي أيضاً" بتذييل عبر فيه عن تقديره لقصصها. وإذا كان عزت الغزاوي يرى هذا الرأي في أمين دراوشة، فإن أمين أولى بالتشجيع للاستمرار في الكتابة. يقول عزت الغزاوي في تذييله التالي:ــ

"لم تخرج قصص هذه المجموعة عن صمت الوادي. ستدهشنا براءة النص الذي يفيض بالإيحاء. لماذا الوادي؟ لأنه الهبوط إلى الاكتشاف، بدلاً من صعود الجبل. في الصعود تنهكنا الارتفاعات الحادة والمفاجئة، ونقترب من طقوس الأنبياء.. وفي الهبوط إلى الوادي نجر أقدامنا باستسلام ونحن نعلم أننا نهبط إلى "مغارة" الحليب الأول وشهوة اللقاء القديم.

ثمة براءة لا تنفصل من المثالية لدى شخوص القصص الذين يتحركون وراء وجع قلوبهم. لكل منهم غصة قديمة تهاجر به، وتجعل الخطو الجديد أمراً لا بد منه. لن يجد الباحثون عن حبكة عباءة مخيطة هنا، والزمن يفتح نفسه على المدى والحكاية. وسيبقى الطفل يبحث عن حكاية توارت قليلاً وراء الباب".


تضم مجموعة "الوادي أيضاً" تسعاً وخمسين قصة قصيرة، وتضم مجموعة "الحاجة إلى البحر" تسعاً وأربعين قصة قصيرة، أي أنهما تحتويان على مائة وثماني قصص قصيرة. أول ما يلاحظ في هاتين المجموعتين، قدرة الكاتب على كتابة القصة القصيرة. وعند أمين هي بالفعل قصيرة لدرجة أن معظم القصص لا تتجاوز الواحدة منها الصفحة الواحدة أو الصفحة وربع الصفحة، أي ما بين مائتين ومائتين وخمسين كلمة. بالطبع هناك استثناءات. هناك قصص لا تزيد على فكرة من فقرة أو حوالي عشرين كلمة (رحيل، من مجموعة الحاجة إلى البحر، ص 69) وأخرى تزيد على ألف كلمة أي حوالي خمس صفحات ("الوادي أيضاً"، ــ من مجموعة الوادي أيضاً، ص 72 ــ 77).

الملاحظة الثانية هي أن عدداً من هذه القصص ليس قصصاً بالمعنى الدقيق للكلمة. توجد "قصص" هي أقرب للنص منها للقصة، تحتوي على آراء هي أقرب إلى نظرة عن الحياة. وهناك قصص أخرى يمكن اعتبارها خواطر وضعها الكاتب في قالب سردي. وهناك قصص هي أقرب للوعظ والإرشاد والتبشير منها إلى القصة وإن كانت في قالب قصصي ويكثر فيها استخدام التعبيرات الدينية، ونورد أمثلة منها كقوله "الحق أقول...،" و "الذي نفسي بيده" (هذيان، من مجموعة الحاجة إلى البحر، ص 18) و "سر، فقد أنزلنا عنك وزرك، ووسعنا عيشك، وشرحنا لك صدرك، قم فأنذر". (المكنسة، مجموعة الحاجة إلى البحر، ص 47)، وغيرها من مثل هذه التعبيرات الدينية.


الملاحظة الثالثة تتعلق بعنواني المجموعتين، اللذين يتمحوران حول ثنائية الوادي والبحر؛ ولا بد أن لذلك دلالة رمزية. فعزت الغزاوي يشرح في تذييله المرهف الحس لماذا تسمية الوادي؟ ويعزو ذلك إلى الصمت الذي يخيم على الوادي، وإلى الهبوط إلى الاكتشاف، بدلاً من صعود الجبل. ويبرر ذلك بالقول أن الهبوط أسهل من الصعود إلى قمة الجبل لأن الارتفاعات الحادة تنهكنا ولأننا في الجبل نقترب من طقوس الأنبياء، على أساس أن الأنبياء لجأوا إلى الجبل: موسى إلى جبل الطور في سيناء، والمسيح إلى جبل قرنطل ثم إلى الجلجلة التي تعني موقع الجمجمة، ومحمد إلى جبل حراء وجبل أحد وجبل عرفات. الوادي كذلك رمز للاخضرار والتجرد، رمز للعطاء ورمز للنزهة. في القصة التي تحمل عنوان "الوادي" (ص 67) فإن الوادي يصبح من خلال قصة الفلاحين اليافاويين وبنت الجزار نموذجـاً للعدل ومن خـلال "الوادي أيضاً" (ص 72) نموذجاً للمقاومة والأمل في أفق جديد. أما البحر فيأخذ حيزاً كبيراً في المجموعتين فهو دائماً هناك إما مكان للتطهر من الذنوب ومن أتعاب الدنيا أو ملجأ للمحبين، هو مكان للأحلام والخلوة مع النفس أو مع الحبيبة. وهو مكان يعلم الصبر والشجاعة، والبحر والسماء صنوان: السماء يحلق فيها المرء والبحر يخوض الإنسان عبابه بحثاً عن السر الإلهي أو السر الطبيعي. ومن يحرم من السماء والبحر "ليس على ميدان الحياة". (هذيان، الحاجة إلى البحر، ص 18) وهناك علاقة جدلية بين الاثنتين الأكثر حباً للغوص في البحر هو الأكثر عشقاً للسماء. (ص 18). ويقترب أمين من معنى الوجود بحيث كل من لا يحب البحر يواجه مشكلة. لأن من لا يعرف العيش في دنياه لا يعرف العيش في آخرته (ص 9)، وأمين مقتنع بذلك إلى درجة أن يقترض النص الديني المعروف "في البدء كانت الكلمة" ليغيره إلى "في البدء كان البحر". (ص 82).


بشكل عام، إن أحداث هذه القصص لا تجري في الأرض الفلسطينية وإنما تجري في الأردن. وهذا أمر طبيعي، خاصة في المجموعة الأولى، لأن الكاتب نشأ وعاش في الزرقاء في الأردن. وبالتالي الإشارة إلى الأماكن الأردنية والعملة الأردنية، والشغل في الأردن في واحد من تلك المعامل أو المصانع. ويمكن إعادة بعض المواقف التي تقترب من الصراع الطبقي إلى تلك الفترة من حياته، حيث بدأ يتكون عنده نوع من الوعي الطبقي. فهو يقر أن "المؤسسات والشركات لا تربح إلا من دموع الناس البسطاء ودمائهم". (الجزم المهترئة، الوادي أيضاً، ص 126). وبالتالي يعلن أنه "سيحارب الشركات المتسربلة ثوب العفة". (المسار، الوادي أيضاً، ص 130).

وغير بعيد عن هذا البؤس الطبقي يقع موضوع الانتحار الذي يتعامل معه الكاتب، في أكثر من قصة كأنه موضوع عادي. مرة يقرر السارد فجأة الانتحار (الوادي أيضاً ص 8)، وثانية يقرر أن يغرق نفسه بالبحر (ص 30) لأنه يشعر أن لا حول له ولا قوة، وثالثة يجعل الطائرة تسقط في البحر (ص 82) ثم يقرر في قصة أخرى أن ينتحر غرقاً لأن زوجته تركته فأظلمت الدنيا فـي عينيه (ص 65) فقرر "تدمير نفسه". (ص 92). لكنه يتخبط، يعرف في قرارة نفسه أن الانتحار ليس هو الحل لمواجهة المشاكل أو الانعزال عن الحياة. ففي "الكابوس" يقرر "أن الانتحار ليس هو الحل". (الوادي أيضاً، ص 129).

إن الكاتب لا يستطيع أن يهرب من قدره. فهو فلسطيني أينما عاش، إن كان ذلك في فلسطين أو في دول الطوق أو في الدول العربية الأخرى أو في أرض الله الواسعة المسماة "الشتات". فعين الكاتب دائماً مركزة على أرض الوطن. وهو على بعد عشرات الكيلومترات من أرض الوطن، يحن إليها. ففي إحدى القصص تخطر بباله فكرة العودة إلى الوطن حالاً. (ها أنا هنا من جديد، الوادي أيضاً، ص 25) ولكن ليس للعيش فيه، وإنما "أريد أن أموت على أرضي الطاهرة في بيتنا القديم الذي بناه أبي ولم يسكن فيه أبداً". (إما ... أو، الوادي أيضاً، ص 46).

ومنذ العودة إلى الوطن، بدأت الحقائق تتضح له. فاصطدم بواقع الاحتلال الإسرائيلي وإجراءاته التعسفية. والمفارقة أنه عندما كان خارج الوطن كان يحلم بالأرض المقدسة، ولكن عندما عاد بدأ يحلم، بل يهجس بإجراءات الاحتلال في الأرض المقدسة. ورأى بأم عينه وعايش تلك الإجراءات. شاهد شعباً يتعذب من الاحتلال والحصار وإجراءاته التعسفية الأخرى. ورأى معاناة الناس على المستويات النفسية والسياسية والأمنية والاقتصادية. لا بل كان مشاركاً ومشاهداً لما يجري على الحواجز الإسرائيلية. يروي الكاتب كيف مُنع السارد من عبور حاجز على مستوطنة معاليه أدوميم، كبرى المستوطنات الإسرائيلية في محيط القدس. ويصف التصرفات التعسفية والمسلكيات الاحتلالية للجندي الإسرائيلي على الحاجز، هذا الجندي الذي قرر عدم السماح للسارد بالمرور وأعاده إلى رام الله. (أشواك، الحاجة إلى البحر، ص 8). ويروي مداهمة جنود الاحتلال لعيادة طبية وقتلهم المطارد وهو يعالج في العيادة. (الأخبار، الحاجة إلى البحر، ص 14 – 15).

وربما الأعمق في هذا الوصف عن الاحتلال، تصويره لمقتل، لا بل استشهاد فتىً على الحاجز كالتالي، يقول: "عندما وصل الصبي الحاجز العسكري البغيض، سقط شيء صغير من بين أحضانه. عاجله الجندي بصلية من الطلقات، استقرت في قلبه. خاف الجنود، ارتبكوا، ارتعبوا، استعانوا بالرجل الآلي لينبش جثة الصبي. بعد قليل عاد يحمل بين أحضانه صورة لصبية جميلة، وعذبة، نمت أثداؤها قبل الأوان" (الصورة، الحاجة إلى البحر، ص 51).


وبشكل عام، أيضاً، فإن غالبية هذه القصص تعالج موضوعاً وجودياً. إنها قصص وجودية لإنسان عادي، هو السارد، يعيش معظم وقته، غريباً، وحيداً، منعزلاً، خارجاً عن العلاقات المجتمعية، لكنه يحاول أن يعيش حياة عادية رغم ظروف الراوي أو السارد المادية الصعبة. معظم القصص تدور في غرفة واحدة، هي غرفة السارد، الذي يلجأ إليها في العادة محبطاً من حبيب أو من صديق أو من عمل. وهو سارد له علاقات حميمة مع النساء، غالباً ما يحبهن وأيضاً غالباً ما يتركنه ويختفين من حياته. هو الراوي أو السارد، رجل متشائم أو بالأحرى متشائل بالمعنى الحرفي للكلمة، أولاً متشائم ثم متفائل، وهو لقب يستعيره من إميل حبيبي. لا توجد قصة من هذه القصص التي تزيد عن المائة بثماني قصص، لا تبدأ بجملة تشاؤمية أو سوداوية أو نكدية، ما عدا قصة "في البدء كان البحر" من مجموعة الوادي أيضاً (ص82) تبدأ بجملة تفاؤلية وتنتهي بسقوط طائرة. القصة الثانية في مجموعة الوادي أيضاً تبدأ بعنوان سلبي "إنهم لا يحبون البحر" والتي يقول السارد فيها "قررت الانتحار فجأة". (ص 8). وتبدأ قصة "نسيم البحر" من المجموعة الأولى كالتالي:

"يداهمني القلق .... استقبل يومي ببؤس فظيع. أحس بأن كل شيء قاتم، متشح بالسواد". (ص 33). ونقرأ في السطر الأول من قصة "المهاجر" من مجموعة الحاجة إلى البحر، ص 36 "عجزت عن استيعاب سبب فراره من الجنة إلى الوحل؟ منذ ما يزيد على سبع سنوات، وهو غارق حتى جبهته في القذارة". نظرة سريعة على هذه القصص تتركنا بحصيلة أو جردة هامة من الكلمات السلبية التي تزدحم في هذه القصص. وتتضمن المجموعتان الكلمات السلبية التالية: الوحشة، الضجر، اليباب، ذبول، الانتحار، الطعنات، الهاوية، السقوط الأبدي، الإملاق، الحثالة، اليأس، الفراغ، الوحشة، التجمد، الأرق، الكآبة، الشقاء، الاهتراء، اللامبالاة، المهزوم، المهترئ، المنكر، المحبط، الصحراء، القاحلة، الممل، السموم والتثاقل وغيرها من الكلمات السلبية والسوداوية.

ولكن، وبالمقابل، تنتهي جميع هذه القصص بجملة أو بنهاية تفاؤلية. فالدعوة التبشيرية بالحياة واضحة. فمن "على هذه الأرض ما يستحق الحياة" (الود، من مجموعة الوادي أيضاً، ص 24)، إلى ميلاد ولد اسماه نسيم، فزادت امرأته عليه كلمة البحر ليصبح اسمه نسيم البحر (الوادي أيضاً، ص 35) إلى "المهاجر" الذي يرى في الهجرة أمراً مفيداً للاستفادة من كل فكر، نرى هذا التأرجح بين الواقع والمستقبل، بين اليأس والأمل كلازمة في هاتين المجموعتين لتعبرا عن نشأة الكاتب في واقع كله مرارة لكنه أيضاً يرى الأمل والضوء في نهاية النفق.

كل قصة من هذه القصص تنفرد بشخصية مستقلة للسارد ولحبيبته، وتتنوع الأسماء التي يبدو أنها منتقاة لتعبر عن شيء إيجابي لا يتماشى مع واقع القصة المأساوي. فالسارد مرة اسمه عامر وأخرى حافظ وثالثة هو الاسم المتصل المخاطب، وفي غيره اسمه وائل عبد الحميد، وثائر خالد النابلسي، ورمز، وناصر ووليد. وأسماء حبيباتهم منتقاة تختلف من قصة إلى أخرى ولا يتكرر الاسم. وهي في العادة فتاة جميلة الروح والمظهر، حلوة الملامح والهيئة، تتمتع بشخصية قوية تعطي السارد الأمل بالحياة وتدفعه إليها دفعاً. ولهن من أسمائهن حظ، مثل هداية، وبتول، وعبير وفداء، وشذى وشروق، ونساؤه لا يتمتعن بالجمال فحسب وإنما بقوة الشخصية والقدرة القيادية أيضاً. فالسارد في معظم الأحيان ضعيف البنيان، ضائع الخطوات والخطى، باحث عن شيء، غير مستقر. والمرأة في هذه الروايات هي التي تعرف ما تريد. إنها عادةً تريد من السارد حبه، تريد ولداً، تريد أن تحيا وتعيش معه، تتحدى المجتمع، تشاركه حياته، تخرجه من جحيم دنياه إلى دنيا الأمل. ويستمد الكاتب جرأته من جرأة نسائه، ربما هي جرأة متبادلة، فلا يتورع عن وصف مفاتن البنت حتى تكون مميزة. يصف السارد في قصة "أشواك" من مجموعة الحاجة إلى البحر، الصفحة 12 مفاتن حبيبته، وكان قد عاد لتوه إلى بيتها بعد أن تم إعادته عن الحاجز، قائلاً "كانت ترتدي قميصا أحمر ضيقاً، يثير مفاتنها، و"شورتاً" يظهر ساقيها البيضاويين ...." (ص 12) أو في قصة "الأنبياء لا يهزمون" يخاطب السارد حبيبته قائلاً "دعيني أتوغل في جسدك، فإن اللذة التي أجدها بجوارك هي لذة خرق التابو، لذة كوني أعلم ما لا يعلم، أبصر ما لا يبصر". (ص 92)
إن احترامه وتقديره للمرأة نابع من احترامه وتقديره لأمه. وهذا واضح في قصصه. بالنسبة له فإن الأم هي الحقيقة، وما عداها هو وهم أو سراب. وكالطفل عندما يكون بين ذراعي أمه فإن ذلك هو "النيرفانا" أو النشوة ويمنحه القوة التي تفوق قوة العمالقة أو قوة جوليات الجبار "ها أنا بين ذراعي أمي"، يصرخ قائلاً "عندها قلت للغد، أيها الغد كن ما شئت فإني محطمك". (في الأحضان، الحاجة إلى البحر، ص 54).

إن قصص هاتين المجموعتين هي قصص شيقة تعبر عن مرحلة فيها الضياع وفيها الأمل، فيها الحلو والمر، فيها اليأس والقنوط ولكن الأهم فيها المحبة وفسحة من أمل، كلها كتبت بعاطفة قوية وبأسلوب جميل قابل للتطور والعطاء والاستمرار.
....................
1)    أمين دراوشة، الوادي أيضاً، مجموعة قصصية، القدس: منشورات اتحاد الكتاب الفلسطينيين 2001
2)    أمين دراوشة، الحاجة إلى البحر، قصص، رام الله: منشورات مركز أوغاريت 2007.

 

تعليق عبر الفيس بوك