ما بعد الإعصار

 

علي بن مسعود المعشني

 

رغم أنَّ الإعصار شكَّل مادة دسمة لعددٍ من الزملاء الكتاب في السلطنة وخارجها حيث تناولته الأقلام بالتوصيف وحجم الأضرار وجدوى الاستعدادات الرسمية والأهلية للحد من آثاره أثناء تشكله ومابعده إلا أنني أرى أنَّ تزاحم الأفكار يثري ولا يُشكل أي ضرر على عموم الجهود والتصورات لمواجهة هكذا حالات والتقليل من آثارها خاصة وأن سلطنتنا الحبيبة - وعلى مايبدو في علم المناخ - أصبحت في نطاق دائرة الأعاصير المدارية الدورية والمنتظمة، الأمر الذي يجعلنا في حالة دائمة من الاستنفار والتخطيط.

الحقيقة التي لابد لها من الرسوخ في أذهاننا جميعًا هي أنَّ الأعاصير ومافي حكمها من عوامل مناخية لايُمكن مواجهتها أو التصدي لها حيث لايُمكن التنبؤ بحجمها ومساراتها وآثارها بالدقة كونها عوامل طبيعية ربانية لايملك الإنسان إزاءها إلا التحوط والتسليم بأمر الله عز وجل والتوكل عليه بعد التماس الأسباب على قاعدة اعقل وتوكل.

ولكن العقل البشري بطبيعته تواق للإعمار والتحدي والابتكار خضوعًا لسنة الله في خلق الإنسان وإناطة الإعمار به كسبيل للتكليف وحب الحياة والبقاء، وبالتالي فقد استلهم الإنسان من هذا التكليف الرباني مُحاكاة الطبيعة والخضوع لسننها ليتماهى معها ويعيشان بسلام وتآخ دون تجنٍ ولا إضرار أو تعد عليها.

فالمشروعات التنموية التي يُقيمها الإنسان على الأرض تلبية لحاجته ورسالته في الحياة لابد لها أن تُراعي طبيعة الأرض والبيئة وتتناغم معهما إلى درجة التكامل والتطابق وماعدا ذلك يعني إعلان الحرب بين الإنسان والطبيعة وبالنتيجة فالإنسان هو الخاسر الأكبر ولنا في عبث الإنسان بالبيئة عبر الحروب والمصانع والتعدي على الغطاء النباتي والإخلال به الكثير من الشواهد على الظواهر الحادة التي تُعاني منها البشرية اليوم وعلى مختلف الصُعد، ولهذا شروح تطول ولا مجال لحصرها .

المُتابع لأحوالنا في السلطنة مع الحالات المناخية ومنذ جونو عام 2007م، سيجد أنّ استعداداتنا ومعالجاتنا خجولة وبدائية ومتناسخة إلى حد كبير، رغم إشهار الهيئة العمانية للطوارئ والإسعاف تلبية للحاجة منذ إعصار جونو إلا أنها هيئة تعمل بمعزل عن مفهمومها وماهيتها ووضعها القانوني.

لاشك أننا تقدمنا خطوة إلى الأمام بعد جونو حيث اكتسبت هيئاتنا الرسمية والجهود الأهلية بعض الخبرة في وسائل الإمداد والإنقاذ والحيطة ولكنها تبقى قاصرة في تقديري لبلوغ الهدف الأسمى لها والعمل على الحد الوقائي السابق لمواجهة مثل تلك الحالات.

فما لاحظناه من إجراءات بعد جونو لم تكن تتعدى إصلاح ما أتلفه الإعصار وإعادته إلى سابق عهده من طرق ومنشآت وجسور ومسارب أودية ومياه دون البحث في كيفية وأسباب تلك التلفيات ودراستها من مختلف الجوانب الهندسية والجيولوجية والفنية وبالتالي فأغلب تلك الجهود وكأنها مجرد إعادة إصلاح وتأهيل لما دمره هذا الإعصار وتهيئتها للإعصار القادم وهكذا.

فللأسف حتى نقاط تجمع المياه في مواسم الأمطار العادية لانجد معالجة لها لتلافي إعاقة حركة السير وأثر تلك التجمعات على المنشآت والمساكن والصحة العامة حيث لازالت الخدمات البلدية تمارس هوايتها في شفط تلك التجمعات بطرق بدائية وعلى مراحل طويلة ترافقها تحذيرات على الأرض من قبل بعض المؤسسات المعنية بالسلامة العامة والسلام.

وقد كشف لنا إعصار فيت لاحقًا خطورة السدود المائية القريبة من المخططات السكنية حيث توقف الإعصار وبقي سد وادي الخوض تتدفق مياهه على المناطق السكنية القريبة منه لثلاثة أيام متتالية بلطف من الله وعناية منه. وهذا يجعلنا في دائرة ضرورة مراجعة جدوى ومخاطر السدود المائية وخاصة القريبة منها للمناطق السكنية كسد صحلنوت مثلًا بمُحافظة ظفار وسدود الحماية لمدينة صلالة تلك السدود التي تنفع لتصريف مياه الأمطار والفيضانات القادمة من أعالي الجبال لتصريفها إلى البحر ولكنها تقوم بفعل مضاد وخطير في حالة الفيضانات والأعاصير التي تُرافقها حالة هيجان البحر فتتضاد لتغرق ماحولها خاصة وأن ساحل ظفار بمدنه وبلداته وقراه هي أرض حجاز أي ساحل محجوز بين جبل وماء وهو بحر العرب وبالتالي فهي أرض مثالية للغرق جراء الفيضانات والأعاصير المدمرة لتلاقي مياه البحر مع مياه الجبال والسدود وكان من الأحرى البحث في كيفية تصريف المياه في هذه الحالات إلى أراضٍ مفتوحة أخرى تتمثل في بادية ظفار للتخفيف من فائض تدفق المياه من مساقط الجبال ومخزون السدود وهيجان البحر.

إعصار مكونو كان الأقوى والأعنف بلا منازع، وكشف لنا عن حجم سوء التخطيط للبنية التحتية بمحافظتي ظفار والوسطى، حيث إن أغلب تلك المشروعات تبين لنا أنها نفذت فنيًا وهندسيًا دون دراسات جيولوجية ولا اجتماعية ولا اقتصادية وافية، أي أن أغلب المشروعات أقيمت بدون دراسات للمواسم في المنطقة ناهيك عن المواصفات الخاصة بحالات الطورائ كالزلازل والأعاصير.

فمن المعلوم أنّ طبقات الأرض ومكوناتها تتكون من طبقات ونقاط صلبة ورخوة يضاف عليها الظروف المناخية الموسمية وعوامل الهجرات والنزوح وحركة السكان في المواسم للرعي أو الزراعة أو السياحة أو الأنشطة التجارية الموسمية ومالم تدخل جميع هذه الحسابات مضافًا عليها حالات الطوارئ المتوقعة فستكون النتائج كارثية والخسائر فادحة.

صحيح أن الله سبحانه وتعالى قدَّر ولطف وحفظنا من الخسائر في الأرواح ولكن الخسائر المادية عظيمة وستستنزف الكثير من الموارد لإعادة المشروعات والتعويضات إلى سابق عهدها.

وكمثال فقط أستحضر الطريق الرابط ما بين ولايتي صلالة وطاقة والذي استبشر الأهالي في المحافظة كثيرًا بتوسعته وإنارته كونه طريقا حيويا يربط شرق محافظة ظفار بوسطها وغربها وكان من ضمن المشروع إقامة ثلاثة جسور علوية لتسهيل عبور الحيوانات في المنطقة من وإلى البحر ولتسهيل حركة المرور وانسيابيته ولكن تلك الجسور اختفت من المُخطط والنتيجة عبور الحيوانات على الشارع العام وإرباكها لخط سير الناس مع استمرار بقاء فرضية الحوادث وإن كانت بنسب أقل من السابق ولكنها قائمة.

الانزلاقات الكبيرة والخطيرة للتربة بمُحافظة ظفار نتيجة إعصار مكونو وخاصة في منطقتي المغسيل والغربية بعمومها وجرف الطرق الأسفلتية معها توحي بأن الطرق أقيمت على نقاط هشة ولم تدرس طبقات الأرض بشكل علمي كي تقام رؤوس الجسور بين نقاط أرضية صلبة تتفادى الانزلاقات في الحالات المدارية الاستثنائية. كما أن عدم وجود جسور حديدية مؤقتة ومخصصة للطوارئ لتسهيل عبور المركبات ولربط الأودية المتضررة من انجرافات التربة والطرق يضع علامة استفهام على مدى جهوزية حالات الطوارئ والإسعاف .

كنت أتمنى أن تكون المنطقة المنكوبة بكاملها قبل الإعصار وأثنائه وبعده تحت المسؤولية الكاملة للهيئة العُمانية للطوارئ والإسعاف لتوحيد الجهود الحكومية والأهلية وحصرها في هيئة ومسؤولية واحدة ولتسهيل حصر الأضرار وتقييم المشروعات المتضررة والخروج بتصور عام يقيم المشروعات ويضع تصورات مستقبلية لتصميمها من كافة النواحي الفنية والهندسية والتكيف مع المواسم وإرشاد كل جهة إلى إخفاقاتها وأخطاء مشروعاتها وجهوزيتهم للحالات العادية والطارئة. ما نراه اليوم أن كل جهة تقوم بتقييم أدائها ومرافقها بمعزل عن الجهد الحكومي المشترك وهذا معناه أننا نهيئ الأرضية لأعاصير قادمة لنواجهها بنفس الخطط وبذات الإجراءات والمعالجات لا أكثر ولا أقل.

كنت أتمنى أن نستفيد من جونو وماتلاه ومن تجارب بعض البلاد التي دخلت في معترك الأعاصير والمنخفضات الجوية الحادة والزلازل وأن نُعيد النظر في خطط توزيع المرافق والخدمات الضرورية كالكهرباء والماء ومخازن الغذاء والدواء تحسبًا للحالات الطارئة، وذلك بتوزيع التيار الكهربائي على المناطق والولايات على شكل حزم مستقلة لا تتأثر بالربط العام في حالات الطوارئ وبخزانات ماء كافية لتجنب قطع الطرقات وتعذر الإنقاذ في هكذا حالات . كما برهن الإعصار الأخير خطأ الاستغناء عن الآبار الأرتوازية بجبال ظفار وعدم إدخالها في خانة الطوارئ والتي كانت ستعين الناس كثيرًا على تجاوز المحنة وتجنب ترقب المعونات من الجهات الرسمية في ظل الظروف المناخية الصعبة.

أعتقد بأن درس مكونو يجب أن يكون عبرة كبرى لنا وأن نفكر مليًا فيما سبق طرحه كمواصفات لمشروعات البنية التحتية، وأن نجعل بكل محافظة على الأقل كمية معتبرة من الضروريات لحالات الطوارئ تكون تحت تصرف أبناء المحافظة وولاتها كبدائل للطاقة والمياه والغذاء والدواء ومحطة إعلام متكاملة وشبكة اتصال حتى نضمن الحد المعقول من سلامة الناس والمنشآت والسكينة للدولة والمجتمع ونواجه الحالات الطارئة بشيء من العلمية والخبرات بمايضمن سلامة الوطن والمواطن والحفاظ على المكتسبات بالوسائل المتاحة بالوقاية والعلاج معًا.

قبل اللقاء: تحية إجلال وإكبار للمؤسسة العسكرية والمتمثلة بالجيش السلطاني العُماني الباسل بجميع وحداته وتشكيلاته وأفراده والذي أعاد لنا الفخر والاعتزاز به كمؤسسة وطنية عميقة تبنى وتحمي متمنيًا منهم ولهم كل التوفيق والسداد أن تعود هذه المؤسسة الفخر إلى سابق عهدها وشعارها لتسهم في بناء الوطن بقدراتها وكوادرها وأن تفسح لها الحكومة الرشيدة المجال لتحقيق هذا الشعار الإنساني الوطني وتجنبها الروتين والبيروقراطية لتحقيق رسالتها في السلم تجاه الوطن والمواطن، فقد أثبتت هذه المؤسسة الوطنية حضورها القوي في إعصار مكونو كما أثبتت أنها الدرع الحصين للوطن من جميع الأعاصير وفي جميع الأزمنة.

وبالشكر تدوم النعم

مسقط : 3/5/2018م

Ali95312606@gmail.com