وعـــــود الجفول


 

محمد حيّاوي* - كاتب عراقي - هولندا


(1)

قبل اِندِمال الجَرح
                                                                                                       "لمّا تيجي عالشّام بنطلع عاحلب.. ناكل كِبي عند الماما"
                                                                                                                         مونيكا شحادة
                                                                                                                                              وعد لم ينجز بسبب الحرب
أفقٌ من دخّان الحرمَل الذي يَحرقه النادلون في فضاء شارع شّميساني، تتخلله قامات الأراجيل الناحلة، مثل جوارٍ زنجيات يقفن خلف كتف مولاتهن، وبين الفينة والأخرى تتكسر ضحكة رقيقة هنا أو كركرة هامسة هناك، تمتزج بعبارة "مشان الله" الساحرة، شهد العاميّة الشامية ودرّة غنجها الخالص عندما تُمسك بشغاف الروح المسلولة من طين الحروب العراقية وزفت الانتصارات العروبية.. الروح المفزوعة.. المُستفَزة من برد عمّان ونظافته.. المغسولة بالعرق الأصلي ودفء الشقق المفروشة وهي تزيح عن شرفاتها المزججة ثلج كانون.
في الطاولة المجاورة جلست "مونيكا"، مُضيّفة الخطوط الملكية مع صديقتها "لميا"، يحتسين القهوة ويتحدثن بالفرنسية ويتضاحكن بعذوبة، وعندما انشغلت "لميا" باتصال هاتفي التفتت "مونيكا" نحوي تاركة شعرها الطويل منسدلاً ليغطي نصف وجهها الأبيض:
ـ لو سمحت.. هل معك ولاعة؟
لم يكن سؤالها يشبه طريقة المعاكسة المعتادة، بل هو إلى الجدّية أميل، فاضطربت قليلاً قبل أن أنهض من مكاني وانحني باتجاهها وأنا أشعل لها سيجارتها، وبدا وجهها في تلك اللحظة مُنيراً، حاجباها المقوسان وانفها الدقيق وشفتاها المزمومتان على فلتر السيجارة المُذّهب. ربّتت برقّة على يدي فشعرت بتيّار عابر يسري في جسدي كله، وعندما عدت إلى مقعدي أطلّت ثانية وهي تبتسم:
ـ لِمَ تجلس وحدك؟.. هل تنتظر أحداً؟
فاجأني سؤالها العفوي لكنَّني استدركت الأمر بسرعة:
ـ لا.. في الحقيقة لا أنتظر أحداً!
ـ انتقل إلى طاولتنا إذن.. تفضل.
انتقلت إلى طاولتهن وطلبتْ من النادل نقل قهوتي ومنفضتي أيضاً. ابتسمت لي "لميا" من وسط مكالمتها، وعندما انتهت منها مدّت لي يدها مصافحة:
ـ أنا لميا من تونس.
ـ أهلاً.. أنا سعيد من العراق.
ـ ربي إن شاء الله يديم سعادتو عليكن.
ضحكتُ وضحكتْ مونيك.
ـ لِمَ تختار الخطوط الملكية النساء الحلوات لتوظفهن عندها إذن؟
سألتُ فضحكت "مونيك" وقالت:
ـ حتَّى لا يسافر على متنها المصابون بالسكري!
رنَّ جهاز "لميا" بنغمة غريبة فتطلّعت إليه قليلاً قبل أن تنهض متعجلة
ـ أفوتكم بعافية.. أنَّهم ينادوني لأحل بدل أحداهن.. ما ليش في الطيّب نصيب.
غادرت "لميا" وبقيت أنا و"مونيكا" نتبادل الحديث عن نزار قباني ونوال السعداوي والفول بالسمسم وحلوى الجبن. كنت كلّما أوغل باكتشافها كلّما يزيد وجيب قلبي وتُمسك عفويتها المدهشة بتلابيبي، حتّى انتصف الليل وبدأ الثلج يهمي. علمت منها أنَّها تسكن في شقة مفروشة بمنطقة صويفية مشاركة مع "لميا"، بينما كنت أسكن في شقّة متواضعة في المدينة الرياضية:
ـ شو رأيك بنكمل السهرة عندي في الشقة.. أنا داعيتك على كاس.. ومنها اتشوف الفوضى الخلاقة التي تخلفها لميا عندما تغير ملابسها.. شئ يشبه القنبلة المفجورة"
ضحكتُ وانتابني شعور غامض وأنا على وشك دخول عالمهن الملوّن، وتخيّلت قوارير العطور تملأ الغرف والقمصان النسائية معلّقة على الأبواب وحمالات الصدور فوق الأرائك، لكنَّني عندما دخلت لم أجد شيئاً من هذا كله، كانت الشقة مُرتبة ونظيفة ورائحة عطر تحوم في فضائها نصف المعتم وعدد من الكتب مركونة في الصالة.
كان هذا لقائي الأول بـ"مونيكا" التي سيؤرقني غيابها في الأيام المقبلة، وستقتحم عالمي المُحاصر بين مقهى العاصمة وغاليري الفينيق وحسب. لكن اللقاءات توالت فيما بعد، وبين سفرة وسفرة ثمَّة متسع للجنون العابر وتقاويم من أعواد الصاج الرقيقة من الفلبين أو ربطات العنق من ماليزيا، فقد كُنّ يعملنّ على الخط الآسيوي ولا يكدنّ يتنعمن بدفء شقّتهن سوى ليال معدودات، حتَّى ذلك اللقاء الأخير.
في الخارج عالم من الأبيض البارد يهبط فوق المدينة وشوارعها الخاوية، وفي الداخل دفء سرّي مُطبق تُشيعه "مونيكا" ببشرتها الحليبية وقامتها الناحلة، وهي تحكي لي عن طرطوس، مدينتها التي بدأت تغسل أقدامها من هباب الحرب في مياه المتوسط.
كانت "مونيكا" تحكي من دون توقف، وكنت متشبثاً عنوة بوعيي المائع، حتَّى اقترحت الخروج إلى سطح العمارة بعد أن تنكبتْ بمعطف ثمين. كان الثلج الذي ما زال يهمي قد غطى السطح، وبَدت عمّان من بعيد مُنطفئة تنحشر مثل قِطة وديعة بين جبالها السبعة، لكنَّني كنت مشتعلاً.
أشياء كثيرة في "مونيكا" ذكّرتني بنساء أعرفهن. تلك الامتدادات أحالت ذاكرتي إلى قطعة من المخمل الأبيض وجعلت من زمني المتوقف في عمّان صفراً، فلا الثلج عاد للتساقط ولا "مونيكا" أنجزت وعدها وعادت، تاركة بقايا من خيوط عطرها وشعرة أو شعرتان فوق القميص المُندّى، وجرح صغير في باطن الكف، كان يحلو لها حفره بأظفرها القرمزي، لتقول ليّ آخر الليل، حين تُقبّله:
ـ سأعود قبل أن يندمل ويتبخر العطر.
مُزق من جنون، أو شظايا من حشاشات، ترقد في الخزانة، بين مسوّدات الحروب وكراريس العراق المتخيَّل، مثلما يرقد شال الخطوط الملكية في حقيبة الوثائق، فوق مخطوطات لقِصَّص ستُكتب وحزمة من أوراق الفاكس واخضرار الجواز العراقي المزوّر.
منذ أن رحلت "مونيكا" في آخر رحلة للملكية إلى بيروت وأنا استنشق عطرها المخبوء بحرص مثل كنز دفين، عشر سنوات مرَّت الآن والعطر باق، كُلّما فتحت الحقيبة يفوح ويعبئ أنفي، أو هكذا يُخيَّل إليّ دائماً، بعد أن اندمل الجرح منذ زمن طويل ولم يبق ليّ سوى التمسك بوهم العطر.


(2)

أَسْتَر تتقصى "حقائقي"               
ستتنفس الحريَّة، وسنلتقي ذات يوم..   
أنت تحتسي النبيذ وأنا أقرأ قِصَّصك بعربيتي المضحكة
                                                                                                                                                     أَسْتَر كوفمن
                                                                                                                     وعد أُنجز بسبب الحب
لبعض الكائنات وهج لا مرئي نشعر به عن بعد، عبر الجدران ومن خلال اليأس والعزلة، هذا ما شعرت به عندما قيل ليَّ في المعتقل السياسي أن ممثلة الصليب الأحمر ستزورني لتتقصى "حقائقي".
كنت للتو قد ودّعت طائرة بعيدة مرّت عبر فضاء نافذتي العالية، عندما فُتحت كوّة صغيرة في باب الزنزانة وأطلّ منها وجه حارس قروي طلب مني أن أستعد لا ستقبال الزائرة لاحقاً.
عدت لاطراقتي وما زالت أصابعي تُمسك بنسخة من الكتاب المقدّس، سمح محققي بدخوله زنزانتي، إضافة إلى نسخة من القرآن طبعاً، كنت أقرأ في أعمال الرسل، حين ألقى بطرس بالأفعى التي عضّته في النار وسط دهشة الرومان، عندما قُرع باب الزنزانة، فنهضت مرتبكاً قبل أن يفتحه الحارس وتطل منه "أستر"، التي لم تكن من النساء الخارقات الجمال، بل كانت إلى الرقّة أميّل. ترتدي تَنّورة طويلة وحذاءً رحيماً يفسح المجال لملاحظة دقّة قدميها وجمالهما وبلوزة سوداء ومجموعة من قلائد العاج الملوّنة والأساور الفضية، لكن الأمر الذي زاد من صعوبة الموقف هو ابتسامتها البريئة اللامبالية وهي تمد ليَّ كفاً دقيقاً تحف به رقرقة الأساور قبل أن تنطق بعربية ركيكة:
ـ أنا أسمي أستر.
لم أكن قد أستوعبت الصدمة بعد، فهززت لها رأسي مبتسماً بطريقة ساذجة لأداري خجلي واهتزاز ثقتي بنفسي، ربما بسبب فقدان لحيتي الشهيرة هندستها وعدم العثور على مشط.
خُيَّل إليَّ أن حمامة ملوّنة مثل هذه ستطرح عليَّ بعض الأسئلة سريعاً ثم تمضي لتعد تقريرها عن حالتي في مكتبها المكيف وهي تحتسي القهوة، لكنَّها سرعان ما طوت ساقيها تحتها وجلست فوق بطانيتي الوحيدة..
قالت بعربية غريبة ولكن عذبة:
ـ هل تسمح لي بالجلوس بجانبك؟
ولم أكن جالساً وقتها، بل واقفاً تهز جسدي المفاجأة، وفهمت من سؤالها أنَّها تدعوني للجلوس بجانبها، ففعلت على استحياء أوَّل الأمر وتقرفصت على طرف البطانية البعيد، لكنَّها طلبت مني الاقتراب وابتسامة عريضة ترتسم على شفتيها الطريتين قبل أن تنادي الحارس:
ـ لو سمحت.. أقفل الباب من الخارج ولا تفتحه إلا حين أطرقه.
ـ بيصير.
هتف الحارس بلهجة بدوية واقفل الباب بالمزلاج، فشعرت كما لو أن قبضة حديديَّة أطبقت على قلبي، بينما لم تكن أستر عابئة وانهمكت بتدوين بعض الملاحظات في دفترها وقد انهال شعرها المقصوص على وجهها حاجباً رؤيتها، مما أتاح ليَّ فرصة لتأمّل أصابعها الرقيقة وخاتمها المطعّم بحجر أسود كبير وساعتها الغريبة، وأحسست بدفء يسري في عروقي وخوف من أرق لاحق سيعتريني في الليالي المقبلة، ولم أكن مصدّقاً أن ثمَّة امرأة مثل أستر تجلس بجانبي في زنزانة مقفلة، وعبثاً حاولت ترتيب أفكاري وتخيلاتي، فقد كنت طول الوقت أشم رائحة مهدئة تنبعث من كتلتها الصغيرة، على الرغم من أنَّها لم تضع عطراً ما.
فجأة رفعت أستر رأسها وداهمتني بابتسامتها الطاغية وأرتني الدفتر:
ـ "أهكذا يُكتب أسمك بالأنجليزية؟"
وقبل أن أجيب داهمتني بسؤال صادم آخر:
"هل هدّدوك بتسليمك إلى سادام هوسين؟"..
صُدمت بجدية السؤال أوَّل الأمر، ثم استرقت نظرة إلى الباب الموصد، قبل أن أجيبها بالإنجليزية أنَّهم فعلوا ذلك.
قالت:
ـ لا تخف.. أنا هنا لأسمع منك.. أنت الآن تحت حمايتنا.. هل يعرفون بأنَّك قد تواجه الموت هناك؟
تأملت عينيها من خلف زجاج نظارتها الرقيق، لم تكن نظرتها تنم عن انوثة ما أو ذبول غنج، لكنَّهما تشعان طمأنينة وجمال.
ـ لا أعرف.
ـ هل أنت قلق؟.
ـ نعم.
ـ أطمئن.. سأساعدك.
قالت ذلك بلهجة واثقة قبل أن تُطبق دفترها الكبير وتواصل:
ـ لنحكي كأصدقاء عن حياتك وأوضاعك.. أليس لديك أصدقاء تحبهم؟
ـ بلى.. لديَّ.. لكن ليسوا بهذا الجمال.
عندها سمعت ضحكتها لأوَّل مرَّة منذ دخولها، وفكرت في سرّي بأن التمتع بسماع نبراتها وهي تتحدث بعربية ركيكة أرحم لروحي من رنين ضحكتها.


(3)

ذهب ليموت قليلاً                                   
لا بأس يا صديقي.. سأذهب لأموت قليلاً وأعود إليكم..
                                                                                                                   محمود جنداري
                                                                                                                          وعد لم ينجز بسبب الموت
كان محمود جنداري يَنز حِكمة وحكايا حتَّى خلته فتيل شمعة ناحلة يَستر عُريه الحقيقي بشمع الصمت ونور الخيال، فأدركت أنه دودة قَز القصة وقد اكتملت شرنقته التي ستتحول لاحقاً إلى حرير ناعم يلف أجساد الصابايا وعرائس الجن الطالعات من مفاوز الحصون الحجرية، حاملات جرار القار، يلط الخمر على غررهن وصدورهن النافرة، مثل مهور القاص الغاطس في مخيض خياله.
محمود جنداري، عذراء القصة داخل شرنقتها، بنتفتي شعره الأشيب فوق أذنيه المُهدّمتين، يبدو مثل كوديا مُثَّلم يجلس إلى طاولتي ويُحدّثني عن قِصَّص المرقاة التي لم أنشرها بعد، ومساطب الآلهة التي هدَّه البحث عن عروقها في رأسه وفي مسمامات الحجر المتناثر حول انبجاسات النفط الأولى قرب كركوك، "كل حجارة منها عالم من الحكايا، بالضبط كما هو الأمر عندكم في الجنوب، تحت كل ورقة بردي حكاية، تفرقها مسالك المشاحيف القيرية وتجمعها القُبل العذرية الجافلة".
أتذكّر كلماته تلك فتنبجس في مخيلتي صور العزلة الجليلة في الحصون السومرية النائمة بين طيّات الوهاد. كل شئ في الجنوب يشبه كل شئ في الوقت السومري، "حتى أنت، تشبه نبيل من أوروك، أو راسبوتين أكدي يجوب الأزقة بحثاً عن ضالته".
هي المخيلة حين تنسفح فليس ثمَّة سلطة للوعي، شئ يشبه الانقياد التام للرغبات، طفولة مُطلقة تستفزها الصور المُدهشة، قِط يُداهن قِطة، نهد نافر من تحت الشيفون المعروق، كأس عرق مُضبب، قمر يتثائب وسط غيمة بنفسجية، دهشة بكر يستفزها العقل، قبل أن يتوصل رجل ما إلى ربط حجر مسنون بعصا ليصنع أداة القتل الأولى وتفقد البشرية عذريتها.
ـ محمود جنداري.. هل ستعود إلى العراق إذن؟
ـ لا بأس يا صديقي.. فهناك الزوجة والأولاد وعروق الحكايا الكامنة في الصخر، مثل عروق الذهب في المناجم الغائرة بعيداً في رحم الأرض.
ـ لكنَّك ستموت هناك!
ـ لا بأس إذن.. سأذهب لأموت قليلاً وأعود إليكم!
.................................
* كاتب من العراق مقيم في هولندا صدر له:
بيت السودان ـ رواية ـ دار الآداب ـ بيروت 2018
خان الشّابندر ـ رواية ـ دار الآداب ـ بيروت 2015
طواف مُتَّصِل ـ رواية ـ دار الشؤون الثقافية ـ بغداد 1989
غرفة مُضاءة لفاطمة ـ قِصَّص ـ دار أفاق عربية ـ بغداد 1986
ثغور الماء ـ رواية ـ دار الشؤون الثقافية ـ بغداد 1985

 

تعليق عبر الفيس بوك