الرصاصة الأخيرة The Last Bullet

...
...
...


يوسف شرقاوي – دمشق


السينما تشغل حياتنا وعصرنا اليوم مثلما كان المسرح يشغل عصر شيكسبير ومثلما شغل الرسم عصر دافنشي، بأفلامها متعددة الأنواع، وتغطيتها لانسلاخات الواقع أو دخولها اليوتوبيا، ببحثها بين طيات الحياة اليومية لعامّة الناس أو الانسجام ودراسة ما يحدث من كوارث، وانطلاقاً من هذا، يحمل الشباب رسالتهم من خلالها، من خلال الفيلم القصير الذي لا يتطلب إمكانيات ومعدات لا يمكن تأمينها، بل عن طريق أدوات محدودة لا يوجد غيرها لديهم، فيتمكّن المخرج الحالم من إيصال رسالته عبر حمام نتاجه، يؤثر على حياة المشاهد، فعمله هو البوابة الصغيرة المفتوحة على الحلم، أسود وأبيض أو رمادي، حلم بأعين مفتوحة على مصراعيها تبعث نظرات هائمة، تهرب من نفسها إلى احتمالات أكثر رحابة.
أوقفنا المخرج محمّد جمال بأخيلتنا ومشاعرنا أسرى للتجربة الجديدة الموجزة، لم نعد كما كنّا، حملنا الرسالة ثقلاً على كاهل بؤبؤ العين، وراحت التأثيرات تنجرّ واحدةً تلو أخرى، تحدث خارج نطاق وعينا المباشر، وظللنا نعزف موسيقى الحكاية التي عشناها في أربع دقائق وخمس وعشرين ثانية، تلخّص لنا بإسقاط إنساني مباشر ما حصل مدار ثمانية سنوات، وقد كوّنت كل هذه التأثيرات نفسها، سواء كانت تحليلاً أو بشكل تجريدي مباشر، ودخلنا الجرح بلا هوادة.
عوضاً أن تنصب بنا حالة "الجنوح للجريمة" بعد مشاهدة تلك الأنواع من الأفلام الطويلة، قد مسّنا شعاع إنساني خاطف، "الجنوح للسلام" قبل الوقوع في دوّامة الندم.
تقاطعت تلك الدقائق مع الواقع المُعاش، إثراءٌ موضوعي حملنا لنفهم ذواتنا بشكل أكثر بساطة ويسراً، لننضج، لنعي، كما وعي الإغريق مسرحهم وآمنوا بقدرته على شفاء الروح والإمداد بالحكمة اللازمة لغلب الكارثة والصعاب، آمنوا بالرابط الكث بين مسرحهم والقوى التي تخاطب الروح، وهنا، في دقائق قليلة، استطاع الفريق القائم على إنجاز الفيلم القصير "الرصاصة الأخيرة" أن يستخدم الأدوات المُتاحة في أغراض بعيدة عن المتعة والترفيه، فسخّر الفريق من الإمكانيات البسيطة وسيلةً تودي بنا إلى الغاية واعين ذلك أو بلا وعي.
وكما اعتقد أرسطو قديماً أن مشاهدة التراجيديا يمكنها أن تحرر المشاهد من الشعور بالظلم والشفقة على الذات، وأن مشاهدتها تجعلنا أكثر قدرة على التسامح والتعايش وفهم الحياة وأنفسنا وإعمال العقل والضمير، كان الفيلم القصير قادراً أن يشكل جزءاً حياً من ذاكرتنا، حتى لك نعد نقوى على التفريق بين ما شاهدناه وما عايشناه، ونقش العمل ذاته في الهوية، فحقق تحليل أرسطو النفسي، وصنع للنفس غشاء بصفوٍ تام لتعيد ترتيب ما حدث.
يؤكد الفيلسوف "آلان دو بوتون" رأيَ أرسطو، ويرى أن الأفلام تساعدنا أن نكون أكثر حرصاً وتقديراً، عن طريق إبراز الطريقة التي يمكن أن تحول بها ثانية واحدة أو مشهد واحد مجرى الحياة للأبد، فالفن يقدر أن يعيد صياغة التفاصيل ويستحثنا على إلقاء نظرة مختلفة إليها.
استطاع المخرج محمد جمال وفريق العمل كافة صنعَ كل هذا، فكاتب السيناريو: أمير الشيخ، لخّص الحدث واعتمد القفلة القصصية الصارخة ليعيد المشاهد ما رآه مجدداً، ولا شك أن استخدام تقنية "فلاش باك" القصصية قد ساهمت السيناريست أن يختزل ويلخّص الحدث بجملة واحدة نهاية العمل، ليفك العقدة بعقدة الندم، ويبلغ الذروة دون انخفاض لوتيرة الحبكة المركّبة، فتبقى في أوجها حتى في الذاكرة، ويبقى التساؤل للمشاهد: كيف حصل هذا؟
كانت هذه الدقائق القليلة محوراً هاماً في حياة كل إنسان شاهد ورأى حجم الكارثة المتنامية على مدى ثمان أعوام في سورية، ورمت بالرسالة الإنسانية على الأكتاف.
إن مناهج وطرق التحليل السينمائي متنوعة، بين النصي والسردي والأيقوني والموضوعاتي والبنيوي.. لكن الفحوى التي وُجدت تبعث بارتجاف جسماني طويل الأمد، فالجملة الأخيرة أو اللقطة الأخيرة من الفيلم، تخلق دهشةً وانفعالاً غير متناهٍ.
إمكانيات وأدوات محدودة، فريق مكوّن من شبّان قلة، استطاعوا كتابة رسالة نصية وإيصالها إلى العين المجرّدة الشاهدة، من الفضاء للزمن للشخصيات، من منح المخرج لخطابه درجات السلّم، من السارد الحاضر، ثمّ من مقلة المشاهد، كان للدقائق القليلة تلك وقعَ عقودٍ كثيرة، أطلقت رصاصتها الأخيرة وأصابت الجميع، ونترك لها أن تصل المكان الذي تستحقه.

 

تعليق عبر الفيس بوك