عبد الله العليان
من الظواهر التي استشرت في الكثير من المجتمعات العربية، وبرزت كوجه مرفوض، قضية التعصب، الذي يشكل أزمة وجودية في راهن الأمة ومستقبلها مما يضعه من اختلالات فكرية وثقافية، والذي لا شك له الكثير من السلبيات والعقبات داخل تلك المجتمعات، ويسبب إشكالات أخرى تزاحم هذه القضية الفكرية، وتفعل فعلها غير الايجابي كعقبة نحو الوطنية الجامعة التي يلتف الجميع حولها، بهدف النهوض الذي يعد مطلباً مهماً في هذا العصر.
ولذلك أصبح تماسك الأمة، أحد أهم المنطلقات الذي يدفعها نحو الوصول إلى أهدافها الرامية إلى تقدمها المنشود، والغريب أن ظاهرة التعصب نالت مقاربة ايجابية من الكثير من الشباب هذا العصر، الذي نال قسطا جيداً من التعليم، وهذا الأمر أراه محيراً ولافتاً، خصوصاً أن هذا العصر أصبح منفتحاً ومتفاعلا بكل تجديده ، ولم يعد الانغلاق متاحاً لهذا الجيل ولن يقبل به؛ حيث يعايش الواقع برحابته وبمعارفه على أوسع نطاق، وكنا نتوقع أن الثورة المعلوماتية، ستشكل قيمة مهمة لنزع آفات التعصب التي بلا شك ظاهرة سلبية، مع بروز الاختلاف المفاهيمي، والتسليم للحق وقبول الصواب والالتزام قانونا وعرفاً، وهذه بلا شك آفات خطيرة تسهم في زعزعة السلام الاجتماعي، والإسهام في اضطرابه، إن لم يتم وضع القيم الواعية في هذه المجتمعات، ووضع المحددات الهامة في كشفه ونقده والمساهمة في رفضه، وإبراز مخاطره. وفي كتابي "حوار الحضارات في القرن الحادي والعشرين" أشرت إلى مخاطر التعصب وآثاره الوخيمة على تماسك الأمة ووحدتها واستقرارها، لأنّ التعصب إحدى أخطر الأفكار التي تجعل المجتمعات مضطربة، في غياب تقارب فكري ونظرة تسامحية، فيما بين أفراد الأمة في القضايا والأفكار التي تجمع عليها الأمة وتعض عليها بالنواجذ، سواء في النظرة العامة أو في التعدد المذهبي، أو غيره من القضايا التي تؤرق الكثير من المجتمعات في عصرنا الراهن.
وهذا التعصب لا نجد له أسباباً مقبولة تجعل له حاضنة دافعة ومسببة لوجوده، عندما لا نجد هناك ممارسات ومضايقات في بعض مجتمعاتنا، تجعل البعض من الناس، يتجه إلى التعصب والالتجاء إليه، وتنظر إليه استجابة وقبولاً، فلم نر هذا في عصرنا حيث أصبح التعدد والتنوع حالة واقعية، ونظرة متداخلة بين الناس وحالة تعايش ظتهر للعيان، وهذا ما يبدو مثيراً للاستغراب في وجود هذه الظاهرة، حيث إن عالم اليوم عالم مفتوح على نفسه، ولم تعد النظرة الضيقة مساراً ممهداً يمكن قبوله، بل العكس أصبح طريقاً مستهجناً.
فقبل 40 عاماً أو يزيد، كان ذلك الجيل وما قبله- مع قلة التعليم ومحدوديته- لا نجد لذلك التعصب تلك النظرة الإيجابية التي تجعل البعض يميز نفسه، أو يتعالى على الآخرين، وكانت بالفعل من الإيجابيات التي استدعت الروح الطيبة التي تمايزت بها تلك الأوقات، مع بعض السلبيات الأخرى، نتيجة الجهل وتأثيره بسبب غياب التعليم كما أشرنا، لكن الافتراض أنّ عصر التعليم والثقافة الواسعة التي عمت الكثير من المجتمعات، تجعل نظرة التعصب، منخفضة، أو شبه معدومة تماماً، لكن الذي حدث كان عكس هذا التوقع. صحيح أنّ الهوية الذاتية، حالة اجتماعية وفكرية موجودة وستبقى في الأمم والحضارات، ومقبولة في ظل الاعتزاز بالذات والمحافظة على قيمة الهوية الوطنية، وهذا لا إشكالية فيه كالأعراف والتقاليد والعادات التي تمثل قيمة وجودية متغلغلة في حياة الفرد، إنّما الإشكالية في النظرة الضيقة للهوية الذاتية المتعالية، التي لا تحقق رؤية إيجابية، ولا نظرة عقلانية لما أرحب وأشمل للمجتمع.
ويحضرني الحديث الشريف للرسول صلى الله عليه وسلم "ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية".