التراث بين التاريخ والتوظيف والحاجة

بدر الشيدي

ليس هُناك من كلمة برَّاقة ومغرية ككلمة التراث؛ فهي روح وذاكرة المكان، وتجسد الهوية الوطنية للشعوب وميراث الأمم. وكلمة تراث تحمل في طياتها التراث معني كثيرة كالإبداع والقيم والمعاني والأفكار والمثل والانتصارات والإنجازات والحكم والأمثال والعلوم والأعياد والمناسبات والرقصات والأهازيج والأزياء والحكايات الشعبية والأكلات والأواني وشكل العمارة والموسيقية وغيرها الكثير، فقد يكون إهماله إثمًا واستحضاره واجبا وطنيا، كما قال ديفيد لوينثال.

أما التاريخ، فهو الأحداث التي وقعت في الماضي وتم تسجيلها، والتاريخ كما قال ذات يوم أحمد بن نعمان الكعبي مبعوث السلطان سعيد بن سلطان إلى أمريكا، بأنه إذا كان العالم يعرف تاريخ الزلزال، فإنه لا ولن يعرف زلزال التاريخ، كذلك يرى أحد الكتاب الأمريكيين أن التاريخ مصيدة للناس، والناس مصيدة للتاريخ.

فالعلاقة بين التاريخ والتراث تبدو من الوهلة الأولى علاقة متداخلة وملتبسة وجدلية. ولعل ذلك مرجعه إلى وظيفة كل منهما ومدى الحاجة إليهما؛ فالتاريخ وظيفته أنه يستجلي الحقيقة الناصعة دون مواربة أو نقصان أو زيادة. أما التراث، فيستخدم المادة بشكل حر، فله أن يزيد عليها أو ينقصها أو ينسبها أو يسقطها. وقد اعتبر الباحث حسني عايش في ذلك أن التراث يبقى حرا في استخدام المادة؛ وذلك سوءا بالحذف أو الإضافة، والليّ واختلاق أساطير وخرافات وقصص لا أساس لها، والمبالغة والاختراع والزركشة عند الضرورة لأجل اختراع قصص لتلبي حاجات معينة؛ مثل: الإحساس بجذور الهوية وإن كان أصحاب تلك الجذور -على حد قول حسني عايش- لا يمتُّون صلة بناس اليوم.

تنظر أغلب الشعوب، خاصة تلك التي تمتلك مخزونا هائلا من التراث والتاريخ، إلى أنه موقع للفجر والاعتزاز. وتحتاج لهما وتدرسهما لمجرد المفاخرة، والتماثل، والبروز كما علق عالم الاجتماع العراقي علي الوردي على حالة العرب بأنهم يدرسون التاريخ ليثبتوا أن فلان أشجع من فلان، وأن فلان أفضل من فلان. كذلك يستدعي التراث في المناسبات الوطنية والدينية والاجتماعية ويتحول إلى مهرجانات خطابة واستعراض، ومادة للفرجة والتغني بأمجاد آفلة، ويتحول إلى مادة يومية تلوكها الألسن ووسائل الاعلام، إلى أن تهمل وتصبح مصدر إزعاج وكابوس كما وصف ذلك جمس جويس بقوله إن "التاريخ والماضي كابوس يجب أن أستيقظ منه".

تلك الممارسات تحول التراث دون وعي إلى مادة سيكولوجية ترنو إليها الشعوب كمعادلة للاستقرار والتوازن والراحة النفسية لا غير، وقد وصف الدكتور علي زيعور باعتبار ذلك حالة سيكولوجية، ومؤشرا حقيقيا للدفء الذاتي، ومنبعا للاستقرار والتوازن النفسي، ووسيلة لتحقيق الشعور بالانتماء الحضاري والثقافي، وتوفير الراحة النفسية أثناء التعامل مع الآخر، ويضيف بأن التشكيك بقيمة الموروث الحضاري عملية تزعزع الثقة بالنفس وبالنص؛ لأنها تخل بالتوازن بين الأنا وحقلها الحضاري الذي يعطي الإنسان عمقا، وقيمة، وشعورا بالانتماء. ومن ثمة، بالأمن والاطمئنان؛ أي بالقدرة على الاستمرار والتكيف.

من كل ذلك يبدو أليس جديرًا بنا أن نعيد الزخم للتراث والتاريخ، وذلك بوضع إستراتيجية لتحويله إلى مادة محفزة للابتكار والاختراع، ولن يتأتى ذلك إلا من خلال بُنى قوية ومستقبل زاهر وخطط بديلة وبناء أفراد بقدرات ومهارات وصناعة قادة حقيقيين للمستقبل. إن جود برامج تحفيزية للمحافظة على التراث والدفع به كقوة ناعمة ورافعة للمستقبل، وأن نبرز تراثنا وتاريخنا إلى العالمية ليشار إليهما بالبنان كفيل بأن يعيد الألق للتراث والتاريخ. يجدر بنا كذلك أن نحول تاريخا وتراثنا إلى كائن متحرك متغير متفاعل ديناميكي يتموضع مع الحداثة والتطور.

هناك الكثير من مَوَاطن الإبداع والجمال من حولنا التي تعكس إبداع الإنسان الذي استوطن هذه الأرض، وطوع الطبيعة وتعايش معها. كما ترك لنا أباءنا المؤسسين تاريخا نفتخر به، علينا أيضا أن نترك للأجيال القادمة تاريخا يذكروه ويفتخرون به. التراث يجب ألا يكون منبع خلاف وفرقة وتناحر لابد أن يكون جسر تواصل بين الأمم والحضارات. إن التراث في الحقيقة ليس جسدا محنطا يوضع في المتاحف والمعارض. ولا هو مادة تترك وتستدعى عند الحاجة. إن الفهم الحقيقي للتراث والتاريخ لهو مطلب يتطلب منا القراءة بشكل دقيق وممنهج للظواهر التاريخية يعتمد وسائل علمية حديثة.

وفي المقابل، لا ينبغي لنا أن نحول التراث أو التاريخ مرادفا للكرامة أو مادة للهروب من الواقع أو الحاضر أو نخلط التراث بالتاريخ. كذلك لا ننسى ولا يجب أن نتجاهل التاريخ المسكوت عنه ونعيد قراءته بكل صدق وننظر إليه كجزء من ثقافتنا لربما يخفي في بواطنه ما يبعث على شيء آخر مختلف وموطن من مواطن الجمال.

شيء آخر يجب أن نلتفت إليه وأعني بذلك المزبلة الكبيرة للتاريخ التي يتسع قطرها يوما عن آخر، ولا تستثني أحد وخصوصا في عالمنا الحاضر.

وعلى هذه الأرض بلا شك أن هناك جهودا تبذل في هذا الإطار. وفي ذلك لا يمكن أن ننكر ما وجهة السلطان قابوس في المحافظة على التراث العماني بشكل عام، وله بصمات لا تُمحى أبدا وقراءة دقيقة للمستقبل. فمنذ بدايات النهضة المباركة أوعز جلالته بإنشاء وزارة للتراث مهمتها المحافظة على الإرث الحضاري للسلطنة. والاهتمام بالأزياء والفنون التي تعكس الهوية الوطنية العمانية، وهناك أشياء كثيرة لا يتسع المجال لها الآن.. وختاما، عندما نظر إلى الراهن المعاش، بالطبع يجب أن نكون متفائلين.

تعليق عبر الفيس بوك