مُعْجَمُ البَيَانِ الحَرَكِيّ والحَاكِي فِي الْقُرْآنِ (لُغَةُ الجِسْمِ أنمُوذَجًا) (10)


ناصر أبو عون


الجزء 30 - سورة التكوير - الآيات (1-14)
{إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴿١﴾ وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ ﴿٢﴾ وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ ﴿٣﴾ وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ ﴿٤﴾ وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ ﴿٥﴾ وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ ﴿٦﴾ وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ ﴿٧﴾ وَإِذَا ٱلْمَوْءُۥدَةُ سُئِلَتْ ﴿٨﴾ بِأَىِّ ذَنۢبٍۢ قُتِلَتْ ﴿٩﴾ وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ ﴿١٠﴾ وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ ﴿١١﴾ وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ ﴿١٢﴾ وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ ﴿١٣﴾ عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ ﴿١٤﴾}
(قصة الآية/ المَثَل):
"أخبرنا أبو سعيد أحمد بن إبراهيم الشريحي، أخبرنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن إبراهيم الثعلبي، حدثنا أبو الحسن علي بن محمد بن سهل السرخسي إملاء أخبرنا أبو الوفاء المؤمل بن الحسن بن عيسى الماسرجسي، حدثنا أحمد بن منصور الرمادي، حدثنا إبراهيم بن خالد، حدثنا عبد الله بن بحير القاضي قال سمعت عبد الرحمن بن زيد الصنعاني قال سمعت ابن عمر يقول: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " من أحب أن ينظر في أحوال القيامة فليقرأ : (إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ) (1)
 (المشهد التصويريّ):
"قال الربيع بن أنس عن أبي العالية عن أبي بن كعب قال ست آيات [قبل يوم القيامة] بينا الناس في أسواقهم إذ (ذهب ضوء الشمس) فبينما هم كذلك إذ (تناثرت النجوم) فبينما هم كذلك إذ (وقعت الجبال على وجه الأرض) فتحركت واضطربت واختلطت ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحوش فماجوا بعضهم في بعض (وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ) قال اختلطت (وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ) قال أهملها أهلها (وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ) قال قالت الجن نحن نأتيكم بالخبر. قال فانطلقوا إلى البحر فإذا هو نار تأجج، قال فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى وإلى السماء السابعة العليا قال فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم". (2)
(أضواء على البيان الحركيّ ولغة الجسم الإشاريّة):
"الافتتاح بـ (إِذَا) افتتاح مشوق; لأن (إِذَا) ظرف يستدعي متعلقا، ولأنه أيضا شرط يؤذن بذكر جواب بعده، فإذا سمعه السامع ترقب ما سيأتي بعده، فعندما يسمعه يتمكن من نفسه كمال تمكن، وخاصة بالإطناب بتكرير كلمة (إِذَا). "وتعدد الجمل التي أضيف إليها اثنتي عشرة مرة، فإعادة كلمة (إِذَا) بعد (واو العطف) في هذه الجمل المتعاطفة إطناب، وهذا الإطناب اقتضاه قصد التهويل، والتهويل من مقتضيات الإطناب والتكرير" وفي إعادة (إِذَا) إشارة إلى أن مضمون كل جملة من هذه الجمل الثنتي عشرة مستقل بحصول مضمون جملة الجواب عند حصوله بقطع النظر عن تفاوت زمان حصول الشروط، فإن زمن سؤال الموءودة، ونشر الصحف أقرب لعلم النفوس بما أحضرت أقرب من زمان تكوير الشمس وما عطف عليه مما يحصل قبل البعث". (3)
(إِذَا ٱلشَّمْسُ كُوِّرَتْ) في التكوير وجهان: أن يكون من كورت العمامة إذا لففتها، أي: يلف ضوءها لفا فيذهب انبساطه وانتشاره في الآفاق، وهو عبارة عن إزالتها والذهاب بها; لأنها ما دامت باقية كان ضياؤها منبسطا غير ملفوف. أو يكون لفها عبارة عن رفعها وسترها; لأن الثوب إذا أريد رفعه لف وطوي; ونحوه قوله: يوم نطوي السماء [الأنبياء: 104]. أن يكون من طعنه فجوره وكوره: إذا ألقاه، أي: تلقى وتطرح عن فلكها، كما وصفت النجوم بالانكدار، فإن قلت: ارتفاع الشمس على الابتداء أو الفاعلية؟ قلت: بل على الفاعلية رافعها فعل مضمر يفسره كورت; لأن "إذا" يطلب الفعل لما فيه من معنى الشرط". (4)
(وَإِذَا ٱلنُّجُومُ ٱنكَدَرَتْ) أي تهافتت وانقضت وتناكرت، يقال انكدر الطائر من الهواء: إذا انقض، والأصل في الانكدار الانصباب". وقال الخليل: يقال انكدر عليهم القوم: إذا جاءوا أرسالا فانصبوا عليهم. وقال أبو عبيدة: انصبت كما ينصب العقاب. وقال الكلبي، وعطاء: تمطر السماء يومئذ نجوما، فلا يبقى نجم في السماء إلا وقع على الأرض، وقيل انكدارها طمس نورها". (5)
(وَإِذَا ٱلْجِبَالُ سُيِّرَتْ)قال الألوسي: "أزيلت عن أماكنها من الأرض بالرجفة الحاصلة على أن التسيير (مجازٌ) عن ذلك، وقيل: (سُيِّرَتْ) بعد رفعها في الجو كما قال تعالى: [وترى الجبال تحسبها جامدة وهي تمر مر السحاب] . وهذا إنما يكون بعد النفخة الثانية.
(وَإِذَا ٱلْعِشَارُ عُطِّلَتْ) "و (ٱلْعِشَارُ): جمع عشراء وهي الناقة إذا صار لِحملِها عشرة أشهر ، وهي أنفس أموالهم عندهم" فتعطل العشار لاشتغالهم بأنفسهم من شدة خوفهم. وفي (عُطِّلَتْ) تأويلان: أحدهما: أهملت، قاله الربيع. والثاني: لم تحلب ولم تدر، قاله يحيى بن سلام. وقال بعضهم: (ٱلْعِشَارُ): السحاب تعطل فلا تمطر. ويحتمل وجها ثالثا: أنها الأرض التي يعشر زرعها فتصير للواحد عشرا ، تعطل فلا تزرع". (6)
(وَإِذَا ٱلْوُحُوشُ حُشِرَتْ) "جمعت من كل جانب أو بعثت للقصاص ثم ردت ترابا، أو أميتت من قولهم: إذا أجحفت السنة بالناس حشرتهم، وقرئ بالتشديد". (7)
(وَإِذَا ٱلْبِحَارُ سُجِّرَتْ) "سُجِّرَتْ"؛ "مكي وبصري"؛ من "سجَّر التنور"؛ إذا ملأه بالحطب؛ أي: ملئت؛ وفجِّر بعضها إلى بعض؛ حتى تعود بحرا واحدا؛ وقيل: ملئت نيرانا؛ لتعذيب أهل النار".(8)
(وَإِذَا ٱلنُّفُوسُ زُوِّجَتْ) و"تزويج النفوس" هو تنويعها; لأن الأزواج هي الأنواع، والمعنى: جعل الكافر مع الكافر، والمؤمن مع المؤمن، وكل شكل مع شكله، رواه النعمان بن بشير عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، وقاله عمر بن الخطاب وابن عباس - رضي الله عنهم -، وقال: هذا نظير قوله تعالى: [وكنتم أزواجا ثلاثة]، وفي الآية - على هذا - حضٌّ على دليل الخبر، فقد قال - صلى الله عليه وسلم – [المرء مع من أحب]، وقال عليه الصلاة والسلام: [فلينظر أحدكم من يخالل]. وقال الله تعالى:[الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين]، وقال مقاتل بن سليمان: [زوجت نفوس المؤمنين بزوجاتهم من الحور وغيرهن، وقال عكرمة، والضحاك، والشعبي: [زوجت الأرواح الأجساد]. وقرأ عاصم: [زوجت] غير مدغم.(9)
(وَإِذَا ٱلْمَوْءُۥدَةُ سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنۢبٍۢ قُتِلَتْ) "قال المرتضى: فإن سأل سائل: كيف يصح أن يسأل من لا ذنب له ولا عقل، فأي فائدة في سؤالها عن ذلك، وما وجه الحكمة فيه؟ والجواب من وجهين: أحدهما: أن يكون المراد أن قاتلها طولب بالحجة في قتلها، وسئل عن قتله لها بأي ذنب كان، على سبيل التوبيخ والتعنيف وإقامة الحجة. فالقتلة هاهنا هم المسؤولون على الحقيقة، لا المقتولة، وإنما المقتولة مسؤول عنها. ويجري هذا مجرى قولهم: (سألت حقي)، أي: طالبت به ومثله، قوله تعالى: وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا أي: مطالبا به مسؤولا عنه. والوجه الآخر أن يكون السؤال توجه إليها على الحقيقة، على سبيل التوبيخ له، والتقريع له، والتنبيه له، على أنه لا حجة له في قتلها. ويجري هذا مجرى قوله تعالى لعيسى عليه السلام: أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله على طريق التوبيخ لقومه، وإقامة الحجة عليهم. فإن قيل على هذا الوجه: كيف يخاطب ويسأل من لا عقل له ولا فهم؟ فالجواب أن في الناس من زعم أن الغرض بهذا القول، إذا كان تبكيت الفاعل وتهجينه وإدخال الغم عليه في ذلك الوقت على سبيل العقاب، لم يمتنع أن يقع، وإن لم يكن من الموءودة فهم له; لأن الخطاب، وإن علق عليها وتوجه إليها، والغرض في الحقيقة به غيرها، قالوا: وهذا يجري مجرى من ضرب ظالم طفلا من ولده فأقبل على ولده يقول له: ضربت ما ذنبك وبأي شيء استحل هذا منك؟ فغرضه تبكيت الظالم لا خطاب الطفل. والأولى أن يقال في هذا: إن الأطفال، وإن كانوا من جهة العقول لا يجب في وصولهم إلى الأغراض المستحقة، أن يكونوا كاملي العقول، كما يجب مثل ذلك في الوصول إلى الثواب، فإن كان الخير متظاهرا والأمة متفقة على أنهم في الآخرة وعند دخولهم الجنان يكونون على أكمل الهيئات وأفضل الأحوال، وأن عقولهم تكون كاملة، فعلى هذا يحسن توجه الخطاب إلى الموءودة; لأنها تكون في تلك الحال ممن تفهم الخطاب وتعقله. وإن كان الغرض منه التبكيت للقاتل وإقامة الحجة عليه". (10)
(وَإِذَا ٱلصُّحُفُ نُشِرَتْ) "الأوراق التي كتبت فيها أعمال العباد نشرت أي فرقت مفتحة تفتيحا عظيما على أربابها بأيسر أمر فتأتي السعيد في يمينه من تلقاء وجهه على وجه يكون فيه بشارة له، وتأتي الشقي من وراء ظهره وفي شماله بعد أن كانت [طويت] عند موته، ونشرها مثل تسيير الجبال وتطايرها".(11)
(وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ كُشِطَتْ): (نزعت عن أماكنها كما ينزع الجلد عن الشاة) (12)، و"كشفت وأزيلت، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة، والغطاء عن الشيء. وقرأ ابن مسعود: قشطت. واعتقاب الكاف والقاف كثير. يقال: لبكت الثريد ولبقته، والكافور والقافور".(13)
(وَإِذَا ٱلْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي أوقدت فأضرمت للكفار وزيد في إحمائها . يقال: سعرت النار وأسعرتها. وقراءة العامة بالتخفيف من السعير. وقرأ نافع وابن ذكوان ورويس بالتشديد لأنها أوقدت مرة بعد مرة. قال قتادة: سعرها غضب الله وخطايا بني آدم. وفي الترمذي عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة وروي موقوفا". (14)
(وَإِذَا ٱلْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) "تقرب الجنة وتظهر لروادها الموعودين بها، وتبدو لهم سهولة مدخلها، ويسر ولوجها. فهي مزلفة مقربة مهيأة. واللفظ كأنما يزحلقها أو يزحلق الأقدام بيسر إليها!!"(15)
(عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ) "جواب الشروط الاثني عشر وتتعلق به الظروف المشربة معنى الشرط. وصيغة الماضي في الجمل الثنتي عشرة الواردة شروطا لـ (إِذَا) مستعملة في معنى الاستقبال تنبيها على تحقق وقوع الشرط"(16) "وما أحضرته هو ما أسلفته من الأعمال، ولما كانت الأعمال تظهر آثارها من ثواب وعقاب يومئذ عبر عن ظهور آثارها بالإحضار لشبهه به كما يحضر الزاد للمسافر ففي فعل أحضرت استعارة. ويطلق على ذلك الإعداد كقول النبيء - صلى الله عليه وسلم - للذي سأله متى الساعة؟ ماذا أعددت لها. وأسند الإحضار إلى النفوس لأنها الفاعلة للأعمال التي يظهر جزاؤها يومئذ فهذا الإسناد من إسناد فعل الشيء إلى سبب فعله، فحصل هنا مجازان: مجاز لغوي، ومجاز عقلي، وحقيقتهما في قوله تعالى: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء)"(17)
.........................
المصادر:
1)    تفسير البغوي - ج 8 - [ص: 346]
2)    تفسير ابن كثير -  اج 8 - [ ص: 329/330 ]
3)    الطاهر بن عاشور - التحرير والتنوير  - ج 31 [ص: 141]
4)    الزمخشري – الكشاف -   ج 6 [ ص: 320 ]
5)    الشوكاني - فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية - [ص: 1589 ]
6)    تفسير الماوردي - ج 6 [ص: 212]
7)    تفسير البيضاوي.
8)    تفسير النسفيّ ج 3
9)     تفسير ابن عطية – ج 8 -[ص: 547]
10)    تفسير القاسمي - ج17 [ص: 6070 /6071]
11)    تفسير ابن عمر البقاعي - نظم الدرر في تناسب الآيات والسور .
12)    تفسير الجلالين.
13)    تفسير الزمخشري – الكشاف - ج 6 [ص: 324]
14)    تفسير القرطبي - ج 19 [ص: 202]
15)    سيد قطب - في ظلال القرآن – جزء 6 [ص: 3842]
16)    الطاهر بن عاشور - من التحرير والتنوير - ج 31 [ص: 141]
17)    المرجع نفسه:  [ص: 151]

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك