هندسة المبنى في شعر العدالة لدى سعيد الصقلاوي


أ.د/ ناريمان عساف – بيروت - لبنان


      يرى الشاعر سعيد الصقلاوي بأن الشعر الحديث قد ذهب بعيدًا في الغرائبية والطلاسم، وابتعد عن هموم الناس اليومية ، وتطلعاتهم الإنسانية ، فانفضوا عنه، وهم يفترضون بأنه على الشعر – لكي يتصالح مع الناس والمجتمع – و(بتعبير بشير العاني)  عليه أن يعود إلى صياغة القيم والأفكار والتطلعات بلغة مفهومة، تخاطب العقل والمشاعر، وإذا رفضنا صحة هذا المنطق ، فكيف نفسر شكاوي، وتذمر شعراء الشعارات والخطابات من عزوف الناس عن قصائدِهم...؟ كيف يفسر الاستهجان العام للقصائد التعليمية، والقصائد المبشّرة، وقصائد العامل والفلاح السطحية، والمبتذلة ...؟ وكيف نفسّر أنه ورغم كلّ محاولات الستالينية تطويق مستقبلية "مايا كوفسكي(1) " ظلّ الشاعر الأهم والأبرز والأكثر انتشارًا...؟
  ويتقاطع هذا الاتجاه كثيرًا مع الاتجاه الثالث الذي يعنى بشؤونه السياسيون من الشعراء والنقاد..(لا أفترض بأنّ هذه الاتجاهات نهائية، فثمة تفريعات داخل كل اتجاه... كما ثمة إمكانية لتداخل الاتجاهات مع بعضها)... والاتجاه السياسي هو الذي تنفتح قصائد أصحابه وهواجسهم ودلالات أفكارهم على آفاق الحلول السياسية، وما يرتبط بها من حريات عامة واقتصاد وطني متين... أصحاب هذا الاتجاه يرون بأن الشعر غائب بفعل فاعل، وأن السلطات باختلافها وتدرجاتها تمارس أدوارًا غير بريئة في تغييب الشعر عن ساحة الفعل الانساني، فغياب الديمقراطية يشلُّ قدرة المبدعين على الانتشار والبقاء... كما أنّ إهمال المؤسسات المعنية بالشأن الثقافي وتقصيرها، يحوّل المبدعين إلى كومة من اليائسين والمهمشين.
من هذا المنطلق سعى الشاعر سعيد الصقلاوي إلى سد ثغرة التغييب، وطرح قضية العدالة المنشودة والمفقودة في قصائد احتلت معظم دواوينه(2) ولكي يجعل من شعره حاضرًا بين الجماهير، معاصرًا، وقيِّما رصفه بطريقة هندسية، تتداخل فيها الشفافية والثقافية والخيال والإبداع بتقنية، وميّزه ببعض التقنيات،  وأهمها:
أ:هندسة الصورة والكناية في شعر سعيد الصقلاوي
1:هندسة الصورة:
     إن البنية لم تعد المعبّر الأساسي الى اكتناه المعنى، كما ساد في بعض المناهج القديمة، وإنما البنية في المنوال العرفاني هي المعنى ذاته في مختلف مسارات تشكله وبنائه، من ذلك أن "لنغاكر" "Langacker" رأى أن التركيب هو نتيجة مباشرة للتصور الذي يأتية المتصوّر، ممّا يجعل التركيب في استرسال وتواصل دائمين مع الدلالة التصويرية (3)
  وفي التصور العرفاني يتلازم المعنى والمبنى ولا ينفصلان أبدًا،. "والمعنى حاضر مجسدن، وكل ما يتمثّل مُبنْيَنٌ في شكل خطاطات مختلفة، ولما كانت عملية الإدراك خاضعة لعملية الجسدنة ، فإن طائفة كثيرة من العبارات تخضع بشكل مباشر لتأثير أجسادنا، وهو ما يترتب عنه القول بأن بناءنا للواقع، يخضع هو الآخر في جانب كثير منه الى طبيعة أجسادنا" (4)، ولما كان ذلك كذلك، " فإن اللغة ليست ملكة عرفانية مجرّدة مستقلة عن العمليات العرفانية الأخرى، بل على العكس من ذلك ، فإنها مصنوعة من تجربتها اليومية والواقعية (5)، لذلك وجب علينا دراسة الصورة في شعر سعيد الصقلاوي، خاصة أنه مهندس، ولأن الصورة نتاج لفعالية الخيال، وفعالية الخيال لا تعني نقل العالم، أو نسخة، وإنما تعني إعادة التشكيل واكتشاف العلاقة الكامنة بين الظواهر، والجمع بين العناصر المتضادة أو المتباعدة في وحدة، وإن فهمنا هذه الحقيقة جيدًا، أدركنا أن المحتوى الحسي للصورة ليس من قبيل "النسخ" للمدركات السابقة، وإنما هو إعادة تشكيل لها، وطريقة فريدة في تركيبتها الى الدرجة التي تجعل الصورة قادرة على أن تجمع الاحساسات المتباينة، وتمزجها وتؤلف بينها في علاقات لا توجد خارج حدود الصورة، ولا يمكن فهمها أو  تقديرها إلا بفهم طبيعة الخيال ذاته، باعتباره نشاطًا ذهنيًا خلاقًا ، يتخطى حاجز المدركات الحرفية، ويجعلنا نحفل لائذين بحالة جديدة من الوعي (6)
   ان العلاقة بين الخيال والعاطفة علاقة وحداوية، فكل يؤثر في الآخر، والصورة الفنية الناتجة عنهما متصلة بالحس ومعطياته، فالمعاناه الشعرية متصلة بالواقع المحسوس، " وعليه تغدو الصورة الفنية علاقة مع الذات والموضوع، أو هي لحظة انسجام بين الذاتي (شعور الفنان وخياله) والموضوعي (المعطيات الحسية الواقعية)(7)
  وعلى ذلك يمكن القول إن : الصورة الفنية لا تثير في ذهن المتلقي صورًا بصرية، وصورًا تتصل بكل الأحساسات الممكنة التي تكوّن الإدراك الإنساني، ولا ترجع قيمة الصور الى أنها تحاكي الاشياء، بل الى أنها تجعلنا نرى الأشياء في ضوء جديد، وخلال علاقات جديدة، وتخلق وعيًا فنيًا، وخبرة جديدة (8)
    والصورة الحديثة تسير نحو الخصوصية التي تتضمن الغموض ... كما إن نظرية عمود الشعر تعمل على إبقاء الشعر في نطاق تقليدي، قوانينه سلفيه؛ والخروج من نطاقها يحوّل  الشعر إلى مسارات حديثة، تعايش الواقع بلغة العصر الخاصة.
    وكانت بداية التجديد بالخروج من دائرة الشعر العامودي، من قبل عبد القاهر الجرجاني، في نظرية النظم، ففي" ظل هذا الموروث بادر " عبد القاهر الجرجاني" إلى تصحيح المفاهيم المغلوطة، ووضع الأصول الصحيحة، لتغيير ما هو سائد عند سابقيه، فلم يسبقه  أحد من النقّاد العرب القدماء في التعمق في فهم الصورة، لأنه اعتمد أساسا على فكرته القائمة على عقد الصلة بين الشعر، والفنون النفعية، وطرق النقش والتصوير.
  "وفهمه للاستعارة، أثّر في طبيعة فهم الصورة الفنية، التي تمثّل اتحاد ًا بين الأشياء لخلق جديد، ولا تحافظ على الحدود المتمايزة، وليس الهدف منها "المبالغة" (9) أو إثبات لمعنى لا يعرفه السامع من اللفظ، بل من معناه، كذلك الأمر الكناية، وليس فقط الاستعارة (10)
(1): رمزية الأقنعة والمرايا  في صور العدالة لسعيد الصقلاوي
  يمثل القناع شخصية تاريخية يختبئ وراءها الشاعر ليعبر عن موقف معين فيه،  يهتز ميزان العدالة. والقناع لديه يشمل شخصيات شعرت بالظلم، ومنها: الإنسان العربي الواقع تحت نيران الحروب الداخلية، وقد ركز على الاختفاء وراء أقنعة معاصرة، عانت كثيرًا من شتى أنواع القهر والمتطلعة للغد المشرق والأفضل.
  وفي قصيدة (إضاءة من الداخل)(11) ، يحاول االشاعر أن يلقي الضوء على التجارب الإنسانية التي عانت من القهر والبطش والحروب لا الإنسانية (كمبوديا /السند) الاستبعاد والاستغلال (إفريقيا)، ولا ينسى بالطبع الجرح العربي (بيروت) كإشارة للحروب الطائفية المتوالية نتيجة للتدخلات الأجنبية فيها. فالشاعر يحاول كما أسلفنا إلقاء الضوء على هذه التجارب الإنسانية المريرة، وهذه العذابات التي عانت منها الإنسانية بشتى ألوانها، لذا يبدأها بما عانت:
رغم التجهم، كاسيا وجه الضباب
رغم التصحر في الخلايا ناهشا
ونلاحظ أن عملية التماهي والذوبان لأنا الشاعر في أنا الشخصية التراثية تمّت ضمن القناع، ثم حدثت بعض الاختراقات في الجزء الأخير من القصيدة؛ عندما حضرت أنا الشاعر، وغابت أنا الشخصية، فجعلتنا " إزاء قناع يفكر الشاعر في رأسه، ويرى بعينه، ويدرك العالم بحواسه (12)

"أنا طفل فلسطيني
أنا ما بينكم انسان
وفي عنقي تسمّر خنجر الأزمان
وعربد في جنان سعادتي الطغيان
وخلّفها كخيط دخان
أنا ما بينكم إنسان
ولا أبغي سوى العنوان
سوى وطني المشرد بين ظفر الغول والانسان
سوى أني
أحس بداخلي إنسان
فمن يدري ومن يسأل
وهل جفني نفك إساره أنوار المستقبل(13)
  ويمثل القناع خلق اسطورة تاريخية، لا تاريخًا حقيقيًا، فهو تعبير عن التضايق الحقيقي ، ومحاولة لخلق موقف درامي، بعيدًا عن التحدث بضمير المتكلم، ولكي يرفع الحاجز بين الأصل والقناع، توضع هذه الدرامية في أبسط حالاتها، كما أن حضور الأصل باستمرار من وراء الستار، يقلل التنوع في الأقنعة، على اختلاف اسمائها، و يسلط الضوء على المحيط والموقف، فيصبح لدينا مراية تؤكد على الهدف من رسم شخصية بطل القصيدة وتعبيره المستمد من الشاعر. نلحظ على سبيل المثال تكرار أنا ، لإبراز شخصية الطفل الفلسطيني الذي تحوّل إلى شخصية تاريخيّة، تقمصها، وهي رمز للشعب الفلسطيني كله، الذي تشرّد منذ سبعين سنة، وجملة " تسمّر خنجر الأزمان في عنقة، تشكّل استعارة، فيها تشخيص لظلم المحتل، وتكرار الأداة سوى، تفيد أن الظلم واقع على الشعب الفلسطيني من الغرباء والأقرباء الذين يزدرونه، وعبارة "أحسّ" بداخلي إنسان خير معبر.
  ويبدو واضحًا أن الشاعر سعيد يعيش المأساة بحذافيرها من خلال الصور الشعرية، والقناع لديه يمتد إلى البرق في هذا المقطع، إذ يشبّهه  بالسيف الذي بلمعانه يشق عتمة الليل، ولسان هذا البرق هو لسان الشاعر.
   ويستمر الشاعر في التعبير عن المأساة التي يعانيها أطفال فلسطين من القتل والتشرد والظلم، فيقول معبرًا، ملبسا القناع أشياء كالسيف الذي يحاول الاضاءة على قضية المشردين، وفي هذا إتاحة لإمكانيات تعبير واسعة للشاعر الذي يقول :

"وسنا يمزّق كدس ليل معول
وحياة شعب من الهوان مكبّل
ريح تزلزل كل سدّ مطلّ(14)
  في البيت الأول استعارة مكنية قيمتها وصف وقع الظلم وافتقاد العدالة، وفي البيت الثاني نجد مزاجًا عقليًا يصف حالة الشعب المنغمسة بالمذلة، ثم يعود الى استخدام الاستعارة مجددًا، مشبهًا الظلم بالريح التي تزلزل كلّ حماية للبشر.
  وليس هناك أي تطابق بين القناع والشخصية التاريخية، أو الأسطورية ، أو المستنبطة، فالقناع ناتج صوت الشاعر وشخصيته، وينطوي على عناصر منها، إن اختلفت نسبها أحيانًا.
ويشمل القناع عدة أبعاد، ودلالات، مستمدة من العبء التاريخي، والظلم الواقع في العصر  الحديث، وتصوير الواقع المرتجي من خلال اسم يتحدث من خلاله الشاعر متجردا من ذاتيته، والقناع لديه جوّال ككتابته، فالكتابة لدى الصقلاوي كتابة جوّالة في التاريخ؛ تاريخ المدائن وقداستها، والتاريخ المعرفي وأهله، وتاريخ النضال وأبطاله، وتاريخ الإنسان وتطلّعاته، وتاريخ الشعر وفتنه، فمن المهلب بن أبي صفرة، مرورا بالخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبي الأسود الدؤلي، وابن زيد الأزدي العماني، والحسن البصري، وابن دريد الأزدي، والسندباد، وصولا إلى مدن كتب تاريخ بمداد الحب والبوح كنزوى، وبهلى ، وعبرى، وسحر بابل، وكنائس أشور، يتجلى شموخ الشاعر وطموحة الفوار لاستعادة المجد المفقود، واستحضار هذا التاريخ المشرف، بوصفه سلامًا يفرش فوق ضفاف التواريخ فخراً، وكاتبا لأسطورة الشرفاء كونا، ومجدًا وجمرًأ، وموجًا، وروحًا، وعزة، ودلالاً، وحلمًاوحزمًا؛ وهي كتابة محترمة لرؤيا الشاعر، ومبطنة لموقفه من العالم" وناسجة لبؤر التوتر، والتكثيف في طواف الشاعر بين الكلمات وابدالاتها اللغوية والجمالية وشحنها الدلالية(15)
  وينتفض القناع أحيانا، فيتوقف عن أداء مهمته التي أوكلت إليه، إذ إن واضعه ينساه، ويجعله يتكلم بلسانه:
     "صوتي بصوتك يا أبي مُرِنُّ
                        كلّي بكلّك واحدٌ أَغنُّ (16)
  يخاطب الشاعر سعيد هنا صقر قريش، موضحًا أن صوته هو صدىً، يرنّ لما ترك هذا القائد العظيم، ويتابع لتأكيد فكرته بأداة الكلية التي توحّد الاثنين لينتج واحد.
  ويبدو واضحًا أن حضور الشاعر سعيد الصقلاوي يكون أحياناً أشد من حضور القناع.
  والتاريخ غني بالأمثلة التي استطاعت أن تحقق انتصارات عظيمة مثل عبد الرحمن الداخل الذي يخاطبه الشاعر في هذه القصيدة على أساس أنه والده، والأمثلة الأخرى، على العكس من ذلك، لم ترتبط إلا بالفشل والخذلان، مثل أبي عبدالله الصغير، آخر حكام العرب، الذي سلم غرناطة لفرديناند وإيزابيللا، والمستعصم بالله آخر خلفاء العباسيين الذي سلم بغداد للمغول(17):

"سل الصغير وسل مستعصما
                                       هل يرجع الملك معزف ودن" (18)
  الصورة هنا تتأكد مع تكرار فعل سل الذي يسند الى متطابقين في القيمة الإنسانية والرجولية، وصيغة الأمر تتبع بالإستفهام، في سؤال العارف عن استحالة استعادة الملك الضائع.
  ومن الممكن أن يكون القناع شخصية مخترعة، تضفر عناصرها من التاريخ، أو الأسطورة، أو منهما جميعًا... في مثل شخصية السندباد.
  والقناع إذا توسط حقلاً لغويًا وصفيا لمواقف تاريخية، أو حياتية راهنة شكل معها مساحة لمراية تعكسها معه، في سبيل الكشف عن إحساس بمعاناة، تحصل جراء صور انعكاس هذه المراية، لذلك نجده يحدّد في قصيدته "رجولة الكلام" أوصافًا للكلام الذي "يمكن أن يتميز بحسم الرجال؛ فهو الكلام المرآة، كلام العراء، الكلام المراد ،الكلام الذي يشق الصمت ويفضح الظلام" (19)

"فاجأني غناؤك المرآة تعكس الذهول في
رجولة،
وتعكس الخنوع في بطولة ، وتكسر الظلال
والرياح . تنكىء الجراح ، تكسر الإحساس
والاباء . تشرخ اليقين والمضاء، تفتح النوافذ التي
 تعتقل الشموس، والنسائم البرية الرخاء، والمنى.
فاجأني غناؤك العراء، يهتك القناع عن بيادر
"تصحرت" (20)
عن دمعة مجلودة
عن شهقة تسمرت
وقبلة تشوكت
 وفرحة تكسرت وغيبة تعسكرت
وأنفس على رصيف الدمع قد تناثر" (21)
   وهكذا يعري الشاعر سعيد الصقلاوي الذات العربية، ويكشف حقيقتها المزيفة، فخلف الغناء الجميل واقع مأساوي من الهزائم والانكسارات، والجراح والضياع، وخلف هذه الذات المتضخمة، والرجولة الكلامية- التي تحول معها الانسان العربي إلى ظاهرة صوتية تتقن الصراخ والعويل، والشجب والتنديد، والاستنكار والوعيد، والتهديد بالويل والثبور وعظائم الأمور- خلف كل هذا محض خواء وهباء، فحيثما يطول اللسان تقصر اليد، وحيثما يكثر الكلام يقل الفعل" (22)
  وهو يذكر المرآة، ويذكر القناع لأنه ملمّ بالحركة الهندسية التي يلعبها في تصميم القصيدة، وبفعل هذين العنصرين المهيمنين لتكوين الشعر العربي الحديث.
  وتعتبر  المرآة أوسع مجالاً من القناع، لأنها تصلح أن ترفع في وجه الماضي، كما تصلح أن ترفع في وجه الحاضر، وأن تعكس الأشخاص، بينما لا يصلح القناع إلا للماضي، فنحن مثلا لا نستطيع أن نتخذ من "ناجي العلي" قناعًا لأنه معاصر، ولا من "أبي الهول"؛ لأنه سوف يتحوّل الى رمز أسطوري، ونخرج من هذه الدائرة، أما شاعر المرآة فإنه يستطيع أن يرفع المرآة أمامه، وأن يعكس الصورة التي يريدها من الزاوية التي يريدها..."(23) ، والقناع يوّسع عقل الاشارات المطروحة للإجابة على أسئلة، ويصبح جزءاً من المرآة؛ وقد تنوعت المرايات لدى الشاعر سعيد الصقلاوي، فمنها مرايات الشخصيات التاريخية من مثل "سيف بن سلطان اليعربي المتوفي سنة 1123 هـ الذي حكم عمان ما بين 1692 هـ / 1711 م في حمأة الصراع مع البرتغاليين؛ فأبلى في ذلك بلاء كبيرًا، وألحق الهزائم النكراء بالأعداء، واستردّ الأراضي المسلوبة، وانقادت البلاد والعباد لسلطته وعدله، وعادت في عهده السلطنة شديدة قوية، حصينة، منيعة، مهابة الجانب، فكان أن لقب – نظير ذلك – بـ "قيد الأرض" .
  إذن فالشاعر من خلال هذا الديوان يستدعي هذه الشخصية البطولية الأسطورية ليعوّض بها نفسيا عن واقع الهزيمة والانكسار العربي. فقد أعجزه أن يجد نموذجا لهذه البطولة في واقعنا العربي، فراح يستلهمها من التاريخ، والعروبة.
 والمرايا أنواع منها (24):
-مرايا شخصيات رمزية في مثل شخصية الشهيدالتي يقول على لسانها  :
   فمن صلب الثرى صوتي
   أفجّره، وأنفاسي
   وأطلقه حمامات
 -مرايا شخصيات معاصرة في مثل شخصية الطفل الفلسطيني.
مرايا الأشياء : في مثل حقل دلالة الظاهر في قوله: "ظفر الغول والأسنان" (25)
مرايا مكانية في مثل الحقل الدلالي الظاهر في قوله:
"مدن الرجاء المستبدة ، وفي قوله: "فاضت على مزن الندى" (26)
 -مرايا الجسد: في مثل هذا الحقل الدلالي، وما يتبعه:

"المدائن ترتعف
رمداء يسكنها التلف" (27)
-"مارايا أسطورية : في مثل دلالة ما يأتي، وما يتبعها:

"هذا الساحر يسكب كوثره
في أوردة الأشجار الحبلى بالقنب
ويراقص أجنحة الطير المغلولة بالنصب" (28)
وكأن الشاعر سعيد الصقلاوي أثناء اتقانه لفن تجسيد المرايا ، يعكس صورتها في نسج مجازي يدل على ما يريد.
  إن الشاعر سعيد الصقلاوي يضع الأصبع على الجرح، ويشخّص الداء ويتّهم – بكل جرأة ومسؤولية – الذات العربية، ويحمّلها المسؤولية عن هذه الحالة المتدهورة.
  يقول في قصيدة المتضخم:

"تضخّم منتفخا بالخواء
وأتقن صنع مرايا الرياء
ولما أجاد الوقوف كراء
أقاموه رأسا بلا كبر ياء
ويقول في قصيدة :"رجولة الكلام" التي تجسّد نقدا لاذعا، وتناولا ساخرًا وقاسياً للذات العربية:

"فاجأني غناؤك المرآة تعكس الذهول
رجولةٍ،
وتعكس الخنوع في بطولة. وتكسر الظلال" (29)
  وكثيرًا ما كشفت هذه المرايا عن وجه من وجوه العدالة؛ والقناع في قصيدة "رجولة الكلام" هو "الهولو"، أي الغناء الذي ينشد وقت الابحار في الخليج العربي، وقد حدثه الشاعر قائلاً له أنه فاجأه، ومن هذا المدخل عكس المراية على المآسي، الحاصلة في الوطن العربي، والمتمثّلة بالقهر، والألم والآهات التي لا تهدأ، والجوع والتشرّد والضياع.
المصادر:
(1)    شاعر ومناضل  روسي 1893-1930م.
(2)    ناصر أبو عون ، تجليات الشعر العماني المعاصر ، سعيد الصقلاوي ترنيمة الحياة،
         مسقط ، ترنيمة الحياة ،ط1، دار ضفاف للطباعة والنشر والتوزيع،2013، ص 49
(3)      عبد الله صولة ، الاسترسال في الظاهرة اللغوية ، ضمن ندوة قسم العربية ، جامعة
            سوسة ، 2002
(4)      د. رضا عليبي، المعنى ، المبنى ، خطاطة القوة في شعر السقلاوي ، مقاربة
           عرفانية، المنافذ الثقافية، عدد 16 خريف 2016 / ص 51
(5)      توفيق قويرة الشعرية العرفانية ، مفاهيم وتطبيقات ، على نصوص شعر قديمة
           وحديثة، كلية الآداب /القيراوان / 2015 / ص 91
(6)      إحسان عباس ، تاريخ النقد عند العرب ، بيروت ، دار الثقافة ، ط 4 1992 ، ص 3
            09 - 310
(7)      د. صاحب خليل ابراهيم، الصورة السمعية في الشعر ، منشورات اتحاد الكتاب ،
           دمشق 2000، ص 35
(8)      سامية سلوم ، الصورة الشعرية في مرآة النقد العربي، القديم تتمة ، مجلة المنافذ
           الثقافية ، عدد 12 ، خريف 2015 ، ص 167
(9)      الجرجاني،  عبد القاهر، دلائل الاعجاز في علم المعاني، القاهرة، مطبعة المدني،
            1992.
(10)    شاعر بحجم الألم – ص 84
(11)     خلدون الشمعة ، تقنية القناع، دلالات الحضور والغياب، مجلة فصول ، مج 6
          ، عد 1 ، القاهرة ، صيف 1997، ص 81
(12)      أجنحة النهار ، ص 28 – 29.
(13)     أجنحة النهار ، ص 32
(14)      د.عبدالله أحادي ، الكتابة الشعرية ، أو تلقي الوصايا ،تأملات في التجربة
            الشعرية للشاعر العماني سعيد صقلاوي ، مقاربات -2017- ص 25 – 2-
            ص 34
(15)      وصايا قيد الأرض ، ص 55
(16)      مجموعة من المؤلفين، تنسيق د. جمال بو طيب ، عبق الرحيق، منشورات
           مقاربات، 2017.
(17)       م. ن، ص 57  
(18)      عبق الرحيق ، ص 38.
(19)      وصايا قيد الأرض ،  ص 6 - 7
(20)      وصايا قيد الأرض، ص، 6-7.
(21)      د. احسان عباس ، اتجاهات الشعر العربي المعاصر ، ط 2 ، دار الشروق
           للنشروالتوزيع ، بيروت  1992 – ص 126
(22)      عبق الرحيق، ص 47
(23)      أجنحة النهار،  ص 29
(24)      - أجنحة النهار،  ص 29
(25)      - وصايا قيد الأرض ، ص 125 – 126
(26)      - أجنحة النهار،  ص 10
(27)      -أجنحة النهار،  ص 91
(28) عبق الرحيق، ص 49

 

تعليق عبر الفيس بوك