خالد محيي الدين والانحياز للديمقراطية

عبد الله العليان

توفي قبل عدة أيام، آخر رموز قيادات الضباط الأحرار في مصر في اللجنة التأسيسية لحركة 23 يوليو 1952، السياسي المخضرم الأستاذ/ خالد محييي الدين، قائد سلاح الفرسان في الثورة التي قادها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ويُعد خالد محييي الدين أحد الوجوه المعروفة من القيادات العسكرية المصرية التي انحازت للديمقراطية، عندما اشتد الخلاف بين الضباط الأحرار، والرئيس محمد نجيب عام 1953، وانحاز إلى مطالب محمد نجيب بأن يرجع الجيش إلى ثكناته، ويقوم بمهماته في الدفاع عن الوطن، وليس الدخول في المعترك السياسي، وتكون الحياة السياسية وفق النظام الديمقراطي، كما عرفته مصر في المملكة المصرية، وبعد إقالة الرئيس محمد نجيب من مهمته الرئاسية، استقال خالد محييي الدين من مجلس قيادة الثورة، وطلب السفر للخارج، ومكث عدة سنوات في سويسرا بعيداً عن النشاط السياسي، ثم عاد إلى مصر في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، وكانت عودته برغبة من الرئيس عبد الناصر، بحكم صداقته الوثيقة معه أثناء تأديتهما الخدمة العسكرية قبل الثورة، وأسس جريدة (المساء) ثم انتخب عضواً في البرلمان المصري لعدة سنوات، ثم رئيساً لمجلس إدارة دار أخبار اليوم الصحفية، بعد صدور القرارات الاشتراكية في بداية الستينيات، ويُعد خالد محييي الدين في بداية حياته ميالاً للحركة الصوفية النقشبندية، لكن بعد انخراطه في المعترك السياسي، انضم للإخوان المسلمين ـ كما قال ـ في مذكراته( الآن أتكلم)، سرعان ما غيّر اتجاهه لإحدى التنظيمات اليسارية السرية (حدتو) المعروفة قبل الثورة.

وبعد وفاة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وتولي الرئيس أنور السادات الحكم في بداية السبعينيات وتأسيس المنابر الثلاثة، ثم الأحزاب السياسية عام 1976، تولى خالد محيي الدين قيادة حزب التجمع الوحدوي ـ اليساري ـ وأذكر أنه في جلسة مجلس الشعب المصري، في فترة تكوين مجلس هذه الأحزاب بمجلس الشعب، أن الرئيس السادات انتقد خالد محييي الدين في جلسة البرلمان، عندما صرّح محيي الدين أن يكون موقع التيار الناصري مع حزب التجمع، وقال السادات رداً على هذه المقولة من رئيس حزب التجمع ( ارحموا الراجل يا خالد.. يرحمكم من في السماء)، ويقصد الرئيس السادات أن حزب التجمع يضم يساريين وماركسيين، ورد خالد محيي الدين في تلك الجلسة فقال للسادات(يا أفندم جمال عبد الناصر اشتراكي ووحدوي، ومكان الناصريين في حزب التجمع) ، لكن السادات، لم بقبل ما قاله خالد محيي الدين، ويقصد أنه لا يفترض أن يدخلوا أنصار عبد الناصر في الحزب اليساري ذي الميول الماركسية، وحصل انشقاق في التيار الناصري في مسألة الانضمام لتأسيس حزب التجمع، ومنهم الأكاديمي والقانوني د/ يحيى الجمل، والعديد من القيادات السياسية الناصرية.

واجه المرحوم خالد محيي الدين الكثير من الانتقالات، بسبب التوجه اليساري له والدفاع عن الماركسية، مع ما عرف عن تديّنه، إذ كان رئيساً لبعثة الحج المصرية عدة مرات، وأكثر الانتقالات التي وجهت لخالد محيي الدين، كانت من المرحوم د. مصطفى محمود، حيث جرى بينهما، حوارات وسجالات على صفحات مجلة(روز اليوسف) في أواخر السبعينيات من القرن الماضي، والتي جمعها د. مصطفى محمود في كتابه (لماذا رفضت الماركسية)، كان الحوار بينهما اتسم بالمصارحة والمكاشفة الفكرية، وكانت هجمات مصطفى قوية وناتجة عن معرفته الدقيقة بهذا الفكر، بحكم أنه كان ماركسيا، قبل تراجعه عنها، كما ذكر ذلك في الكتاب المشار إليه. يقول د. مصطفى محمود في بعض ردوده على خالد محيي إن"الماركسيين في مصر الذين عادوا بوجوه إسلامية ولغة إسلامية لإنشاء حلف بين الماركسيين والإسلام، وكان على رأسهم "خالد محيي الدين"الذي يضع نيشان لينين على صدره، ومصحف مُحمد في يده" وفي بعض انتقاداته قال مصطفى محمود، إن خالد محيي الدين بهذه الازدواجية" يلعن الفلسفة الماركسية على السجادة في صلاته".

ورد خالد محيي الدين على مصطفى محمود في هذا الحوار مستنكراً هذه الاتهامات فقال في رده "لا نسعى إلى صلح انتهازي بين الماركسية والإسلام كما تقول، ولكننا نهدف مع مجموعة من مفكرينا إلى فهم صحيح للإسلام وتفسير علمي عصري له تحقيقاً لمطالب عصرنا في الثورة الوطنية والاجتماعية، ولا نسكت على الصلح الانتهازي بين الرأسمالية والدين"، واستطرد خالد محيي الدين قائلاً: "نحن لا نلعن الماركسية على السجادة كما تدعي، ولكننا على السجادة لا نفعل سوى الابتهال إلى الله أن يهدينا طريق الصواب، وأن يهدي كل الناس وأنت منهم، فالسجادة لها آدابها وسلوكها، وأنت سيد العارفين"..وأهم الردود من مصطفى محمود في كتابه (لماذا رفضت الماركسية)، "حينما بدأت اكتب في الخمسينات كانت الماركسية هي موضة الشباب الثائر في ذلك الوقت، وكنا نقرأ منشوراتها في نهم فتحرك مثاليتنا بما تعد به من فردوس أرضي وعدالة ورخاء وغذاء وكساء للعامل والفلاح ومحاربة للإقطاع والاستغلال وتحرير للجماهير الكادحة. وكانت موسكو تبدو لنا في ذلك الحين الكعبة الأم لهذا الدين الجديد الذي يشع بالخير والرفاهية لكل من يدور في فلكه. وكانت أول صحوة لنا من ذلك الحلم حينما سافرنا إلى الخارج ورأينا الخراب والبؤس والوجوه الكئيبة المتجهمة في المجر ورومانيا وألمانيا وكافة البلاد الشرقية التي تجري في هذا الفلك".

ولاشك أن خالد محيي الدين تأثر بالفكر الماركسي، لفترة طويلة من حياته الفكرية والسياسية، وكان يقول إنه يفرق بين أقوال كارل ماركس في الدين، وأقواله في الاقتصاد بمعنى أن أقواله في الدين لا يقبلها أبداً، وهذا ما جعل الكثيرين يوجهون له النقد على تبنيه هذا الرأي، واعتبروه يناقض نفسه بنفسه في جمعه بين الدين والماركسية، لكن خالد محيي الدين، قبل أكثر من عقد استقال من رئاسة حزب التجمع، واعتكف في بيته، واقترب من التصوف الذي كان قد اقترب منه في الثلاثينيات من عمره.

رحمه الله رحمة واسعة.