قراءة في "قصة الأمس" لـ ماجدة جادو


محسن البلاسي – شاعر وناقد من مصر


ماجدة جادو هي كاتبة سكندرية صدر لها مجموعة قصصية بعنوان زهرة بلون الدم ورواية بعنوان الظل العاري ورواية ثالثة بعنوان قصة الأمس وهي الرواية التي سيتناولها المقال:

تبدأ الرواية بتأصيل تاريخي للتيه القاحل لأسرة ريفية مشردة إبان الحرب العالمية الثانية وبربط رمزي بين تيه هذه الأسرة وتيه الطبقة العاملة والطبقة المسحوقة قبل حركة الظباط الأحرار عام 1952   او انقلاب يونيو او ثورة يونيو على حسب ما يطلق عليها كل حسب موقفه ورؤيته  مرورا بعرض بانورامي لوصول تلك الأسرة إلى الأسكندرية وعرض تفصيلي وتشريحي لمعالم الأسكندرية وتكوينها الطبقي وحواريها   أثناء الحرب العالمية الثانية ، كل هذا يأتي عبر شخصية فاطمة الأم الرحالة بأولادها  والتي ستسكن بالقرب من السجن في منطقة أسمها لامبروزو حيث الحواري الضيقة والبيوت المتلاصقة والبشر المتكدسين فوق بعضهم البعض وغرفة ضيقة تتشبع برائحة العفن المزمن ستسكنها فاطمة وأطفالها وستتحول من فلاحة إلى عاملة في مصنع  ،هكذا بدأت الحكاية ، حيث الشح والتيه يحكم كل شئ يتوالى السرد ويتوالى ظهور الشخصيات وتطور وجودها الاجتماعي والتي تحمل بين تفاصيلها شرح تشريحي لطبيعة الصراعات والحاجات التي تحكم المجتمع في هذه الفترة وما تلاها شخصيات مثل، لمعي الساعي الريفي   البسيط والذي يعمل  في جريدة المصري ومخيمر وعلاقته  الداعمة للفدائيين الذين يقاومون الاحتلال الإنجليزي  ، وعبده كرشة وعزيزة وزواجها من لمعي وغيرهم  ، ويستمر العرض التشريحي للمجتمع السكندري وتركيبه الطبقي وتأصيلاته التاريخية والجغرافية والثقافية ، بالموازاة مع فساد الحياة السياسية وعلاقته بالطبقة الملكية الحاكمة في هذا الوقت ، هكذا كانوا الأجداظ وهكذا تبدأ الحكاية ويسير السرد في مساره  مرورا بالعصور المتعاقبة وصراعات المجتمع الطبقية والأيدلوجية والمجتمعية والثقافية وتطور تلك الصراعات والتناقضات والحاجات عبر سلسال الأبناء وتشريح سلطة عبد الناصر وشكل المجتمع وقتها ومن ثم الأحفاد وما آلت إليه الأمور   والذي لن أحرقه للقارئ حتى لا يتكاسل عن تذوق هذا العمل السردي المهم والذي يعد تأريخ بانورامي ل لمسار التطوري للطبقة  العاملة في مصر  . وعن شكل وبناء الرواية :
اعتمدت الكاتبة على الجانب الواقعي لبنية وآليات الكتابة في استخدامها للغة والسرد والحوار ووصف المكان مع اتساق الزمان السردي مع المكان الواقع فيه ، فالواقعية التي تنتمي إليها الرواية نستطيع أن نطلق عليها واقعية الأزمة الكامنة في توالي المشاهد عبر المسار الزمني كما أحسنت الكاتبة في رسم شخصيات متوافقة مع الأزمات الإجتماعية والسياسية  المستمرة على طول الرواية وكانت الشخصيات ووجودها الإجتماعي خير مرآة لعكس هذه الأزمات ،

ويبدأ كل  فصل في الرواية بقصيدة شعر أو ومضة من قصيدة شعر لشعراء مختلفين سواء في اللهجة أو الأزمنة التى جاؤوا منها ،
مثل ومضات وقصائد عامية  للشاعر محمد سيف وقصائد فصحى لشاعر العامية الألمعي المعاصر عبد الغفار العوضي وقصائد للشاعر العظيم أمل دنقل ، ووضع تلك الومضات الشعرية داخل البناء السردي للرواية كان محاولة من الكاتبة لخرق حدود النوع الأدبي
 بينما تتألف الرواية من مجموعة فصول تكاد تشعر أن كل فصل هو قصة قصيرة قائمة في ذاتها في متوالية تمتد امتداد زمني متسلسل حيث يتولد عن المسار السردي قصصا أخرى فرعية بتجاور يأتي كتكامل وتحالف عناصر ذات مفعول مختلط ومترابط برشاقة استثنائية  تجعل إمكانية  اعتبار النص ككل هو حلقة قصصية مترابطة  أو متتالية قصصية وهي تقنية استخدمها العديد من كبار الأدباء كإبراهيم أصلان في نصه (ورديه الليل ) ونصه الأخر (حجرتان وصالة ) مع اختلاف البصمة السردية لكل من ماجدة جادو وابراهيم اصلان ، وهذا النوع المسمى بحلقة القصة القصيرة هو نوع وجنس أدبي  استثنائي ليس من اليسير ترويضه والتعامل معه

كذلك يبرز نزوع ماجدة جادو نحو ترسيخ انتصار المعيشي واليومي وولعها بالهامش والمهمش والعابر سواء كانت شخصيات أو أحداث ، ففي كل أنحاء الرواية تقدم ماجدة جادو المعلومة التاريخية محمولة في طيات الشخصية المهمشة ، فترسخ لفكرة أن الأدب للمجتمع وليس الأدب للأدب دون أن تطرح الفرد من حساباتها ودون التفكير في المجتمع بشكل شمولي  ومساره التطوري التاريخي بشكل ينتفي فيه الفرد كعضو مستقل بأحاسيسه وتطلعاته ، فتجمع ماجدة جادو بين المجتمع كجسم ذو كيان مادي محسوس وعلاقات مادية محسوسة وبين الحياة ككينونة ذاتية تشمل الوعي الذاتي للشخصيات ،فبرعت ماجدة جادو في رسم شخصياتها داخل حدود زمان ومكان الرواية دون أن تغفل مد الجسر بين الأزمان وعلاقاتها بتشكيل حاضرنا ، فلم ترى الإنسان ككائنا ميكانيكيا وجهازا آليا مفرغ من الإرادات والتطلعات والأشواق للروحانيات واضعة بشكل عام وسلس نصها السردي داخل إطار قوانين الحركة التاريخية للمجتمعات ، وحركة التطور الإجتماعي البشري وتطور أشكال الحاجات والرغبات ، إن واقعية ماجدة جادو مرتبطة بحياتنا العربية ومجتمعنا العربي ارتباطا وثيقا دون أن تسبق الحركة الكفاحية  لتلك المجتمعات  أو تتأخر عنها ، فالأساس الإجتماعي الذي تقوم عليه الرواية هو في الوقت نفسه أساسها الفني ، إنها تنظر دائما أثناء عملية الخلق السردي إلى الحقيقة الموضوعية سواء كانت في صورة كائن إنساني منفرد أو مجتمع بشموليته الفكرية والسلوكية ، لكنني لا أنكر أن شخصياتها في الرواية ظهرت في البداية بشكل جامد دون التعمق في دواخل وأحاسيس تلك الشخصيات ودون ربط واضح لوعي وخيال تلك الشخصياتومنولوجها الداخلي  وهذا يخلق نوعا من النشاز من وجهة نظري  خصوصا بأن الرواية تتشبع بما هو تقريري وتاريخي  وهذا وارد في السرد الواقعي بعض الشئ كما قال هارولد بنتر :
(إن الشخصية التى لا تستطيع أن تقدم براهين مقنعة أو معلومات وافية فيما يتعلق بتجربتها الماضية وسلوكها الحالى أو طموحها ،ولا تقدم تحليلا شاملا لبواعثها ،هى شرعية وجديرة بالإهتمام ) لكن ليس بهذا الجمود الحاد الذي لا يخلق توازن بين ما هو حسي وما هو تقريري ، فالواقعية الإجتماعية في الأدب من وجهة نظري   ليست من المفترض أن تكون  عملا عقليا محضا وليست عملا ميكانيكيا أو عملا سياسيا أو إجتماعيا خالص ، وإنما هي عمل يتشارك فيه العقل والوجدان والحس والخيال المارق أيضا . وليست هذه سمة دائمة في أعمال ماجدة جادو فمجموعتها القصصية الأولى وروايتها السابقة لهذه الرواية تحمل قدرا عظيما من تضفير الخيال والمتخيل بالواقعي ،
لكننا لا نستطيع أن ننكر أن رواية قصة الأمس نبعت من تجربة من أبتكرتها وحياتها المعيشية هي الينبوع التي سقيت منه عملها الأدبي وهذا لا يعني أن الرواية هي سيرة حياتية مستترة  لماجدة جادو  بل أنني أتوقع أن الرواية تحتوي جسور واضحة المعالم مرتبطة بجملة من التجارب الحياتية لماجدة جادو مستندة على الأشخاص والظروف التي تركت أثرا في ذاكرة ماجدة جادو وحركت خيالاتها لصياغة أعمالها الأدبية ، ولقد نجحت ماجدة جادو ببراعة في الفصل بين من يروي القصة وبين من يكتبها بحرفية واضحة ، فلم تكن هي نفسها راوية روايتها ولا يمكنك أن تشعر بذلك في أي جزء من الرواية بل صاغت كائن يروي مخلوق من الكلمات و منفصل عنها تماما ، عليم بكل شئ  كلي المعرفة وهو يعيش فقط ليروي الحكاية ولا تستطيع أن تحدد إن كان يروي القصة من داخلها كجزئ من العالم المروي أو من خارجه ، وصياغة كائن الرواي هو أكثر ما نجحت فيه ماجدة جادو في هذه الرواية ، الراوي الذي يسرد لنا الحدث من منظور شامل خارجي دون أن يحدث خلل في العلاقة القائمة بين الزمن الذي يعيش فيه الراوي العليم بكل شئ وبين زمن ما يروى ، أما الحوار الذي فضلت الكاتبة أن يكون باللغة العامية المصرية فلقد جاء سلسا ووافر بالحياة  وذو إيقاع يأخذك بقوة إلى الحياة اليومية لشخصيات الرواية فيملأ المتلقي باليقين أنه يتعامل مع شخصيات من لحم ودم وليس شخصيات مصاغة من الحروف المتجاورة

 

وفي المجمل فلا يسعنا إلا أن نحيي الأستاذة ماجدة جادو على تلك الرواية البانورامية والسرد التاريخي القوي والمهم

 

تعليق عبر الفيس بوك