أيام المدرسة السعيدية 3-3

 

عــلي بن ســــالم كفيتـــــان

لا زلنا في سكن المدرسة السعيدية بظفار نسابق الزمن للولوج إلى جامعة السلطان قابوس التي فتحت أبوابها قبل 3 سنوات وأصبحت الحُلم الذي يُراود الجميع في هذه السنة الأخيرة كان عليَّ الإيفاء ببعض متطلبات الأسرة في الريف فهناك إخواني يدرسون ويصلون بصمت ويحتفلون بقدومي كلما استطعت الفكاك من كتبي وأملي الموعود أن فرحة عيونهم تمنحني وقودا كبيراً من العطاء والعمل بجهد وخلفهم أعظم أبوين في هذه الدنيا حفظهم الله.

في الغالب أزور الريف مساء الإثنين من كل أسبوع لقضاء ما استلزم من حاجات الأسرة راكباً سيارتي الصغيرة، ومن ضمن البروتكول المرور على مركز فرقة طيطام قبل الوصول للقرية فهناك رجال أحببتهم وأحبوني فقد عشت بينهم ومنحوني ثقتهم وإخلاصهم ورأيت في عيونهم لهب الإخلاص للقائد والوطن كانت زيارتهم جزءا من ذاتي حيث الشوق لهم كما الشوق لأهلي وعندما آتي ترتفع صيحات الترحاب بي من كل جانب ربما كنت مشروعاً يعولون عليه للمستقبل حيث كنت من القلائل الذين شقوا طريقهم لاستكمال مراحل الدراسة من تلك الأنحاء. رجال فرقة طيطام هم أناس من الزمن الجميل، لا تنقصهم صفات الرجال عدتها، وقلوبهم مليئة بالرحمة رغم قساوة الوقت وشظف العيش فهم يحاربون للمستقبل مقتنعين بأنّ الماضي كان صفحة معتمة لا يجب أن يعيشها الأبناء واليوم عندما أعود للفرقة لا أستطيع الدخول إليها فقد رحل الرجال الذين عرفتهم وأصبح فناء المركز حديقة غناء تكسوها أشجار البرتقال التي زرعها الراحلون لذلك أفضل أن أناجي الأشجار والأرض والمكان فقط.

إجازة نهاية الأسبوع كانت فرصة للعودة إلى قريتي الهادئة واللعب مع إخواني ومساعدة الأهل في بعض المهام ولا شك أنّ الذهاب للعين هو المحطة الأبرز فهناك يلتقي الجميع ليسقوا مواشيهم فقد أصبح هناك جيل جديد من الأطفال غيرنا يقومون بتفويج الأبقار من معاطنها إلى الحوض، ولا زال الرجل الواقف كالمسمار وسط البركة يغرف بتنكته الماء ليروي ظمأ مئات الأبقار العطشى، الخبزة على النار وعليها قطع من الصخور الصماء الملتهبة ورائحتها تلف المكان، ترد الأغنام والرجال يحلبون ما يكفيهم ويخلطونه بالشاي الذي يغلي في صفرية قديمة تعطي لذلك المزيج طعما نادراً. هذا الزمن كذلك ولى مع أصحابه وبقيت الصفرية والأدوات المعلقة في سقف الكهف دليلاً على كفاح مرير ولكنه كان بنكهة السعادة والأمل.

في إحدى المساءات الرمضانية ذهبت كعادتي للسوق المركزي لشراء الفطور للأهل وأبرز ما اشتريته كان قطعة جح كبيرة الحجم وضعتها في الكرسي الخلفي بالإضافة لبقية الحاجات وانطلقت بما حملت إلى الريف فالوقت بات يداهمني بينما كنت في صراع مع الزمن للوصول قبل المغرب فجأة رأيت أمامي قطيعا من الأبقار على الطريق ولم أستطع تدارك الموقف واندفعت السيارة بقوة واصطدمت ... فقدت الوعي لبرهة ثم صحوت وأنا مضرجاً باللون الأحمر والسيارة من الداخل كلها حمراء تحسست قدماي وصدري ومن ثم وجهي حاولت أن افتح الباب فانفتح بعد ركلات عنيفة وقفت مذهولاً أمام البقرة التي تكدست أمام السيارة وقد فارقت الحياة وسيارتي التي تكورت مقدمتها ونافورة خزان التبريد التي أصبحت تصدر صوتا مزعجاً مع الدخان المتصاعد.

الخبر السعيد وسط هذا الحادث المؤسف هو أنَّ اللون الأحمر الذي تلطخت به السيارة من الداخل كان ناتجاً عن انفجار البطيخة العملاقة على طبلون السيارة اكتشفت ذلك وهدأت نفسي وأنا أجمع بذور الجح من على وجهي وملابسي وفي هذه الأثناء وصلت سيارة بيك أب عليها شعار الفرق الوطنية نزل منها رجل أعرفه جيداً قائد فرقة عيون آنذاك -رحمه الله- سلم علي وهنأني بالسلامة وساعدني في جر الضحية بسيارته خارج الشارع ودفع ما تبقى من سيارتي إلى الرصيف، وبعدها تفرغت للدراسة بقية العام بينما السيارة ترقد في الجراج.

عقب الانتهاء من الاختبارات تعافت مركبتي مجدداً وكم أذكر ذلك المساء المضطرب في صيف 1989م، الذي تتلى فيه أسماء الناجحين في الثانوية العامة مع نسبهم على المذياع فقد ذهبت إلى مكان قصي في ريف أحبه تحت شجرة الزيتون وكنت استمع للأسماء من مذياع السيارة، وعندما جاء دور ظفار تلا النتائج المذيع المتألق والإعلامي الكبير محمد المرجبي فقال: بسم الله الرحمن الرحيم أولاً: المدرسة السعيدية بظفار تسارعت دقات قلبي بشكل لافت وعندما قربت قائمة الأسماء تنملت أطرافي وشعرت بخدر في جسمي وصاحت أذناي وهنا نطق المرجبي اسمي كاملاً وحصلت بحمد الله وتوفيقه على نسبة أهلتني للدراسة في جامعة السلطان قابوس وتحقق الحلم بعد كفاح مرير.       

 

 

alikafetan@gmail.com