من أجل "المترو" تخلّيت عن الرسول محمد.!


أحمد زايد - موسكو


أخذنى الشوق لصلاة التراويح فتهيأت ونويت الذهاب إلى أحد المساجد بضواحي العاصمة موسكو حتى أتجنب الزحام بالمساجد المشهورة ..
ولو لم أذهب مبكرا لما وجدت مكانًا فى المسجد على الرغم من ظني أن معظم المصلين لا يفهمون ما يُتلى عليهم فى هذه الصلوات الطويلة..
كان الإمام من أذربيجان رائع الصوت، وخاشع الصلاة، فلما انتهت الصلاة وأخذت نصيبي من تلك النشوه التي دائما ما تتبع صلاة التراويح، قررت أن أسير قليلا مستمتعا بهذا الشعور..
وعلى بعد ما يقرب من 200 متر من المسجد لاحظت فتاة عشرينية جالسة على جانب الطريق باكية وليس من المعتاد فى بلاد كهذه أن تتوقف وتسأل عن حالها ولكن بفعل طاقة الخير فلم أقاوم وسألتها:
ماذا بكِ أختي ؟ !
رمقتني بنظرة استغراب فهالني رؤية كمية الدموع المنهمرة على خديها والأخرى المحبوسة في مقلتيها وارتفع صوت بكائها مع رعشة انتابت بدنها وبصوت متهدج قالت: لا شأن لك بي !
فأبى الشرقي بداخلي أن ينصرف ووقفت أمامها فى ثبات لا أتحدث للحظات ثم تحدثت إليها مرة أخرى قائلا: عفوا أنا لا أتدخل فى شأنك ولكن إسلامي أمرني أن أساعدك وألا أتركك هكذا باكية فى مثل هذا الشارع المظلم فى هذه الساعة المتأخرة من الليل وخاصة وأنتِ تعلمين كم السكارى والمخمورين فى هذه الضاحية !
نظرت إلي وقالت:
-    هل أنت مسلم
-    نعم
-    هل كنت فى المسجد لصلاة التراويح
-    نعم
جففت دموعها وقالت أنا أيضا كنت أقيم صلاتي وقالتها بعربية غير مفهومة وعندما كررتها فهمت بصعوبة..
سألتها إن كان لا يضايقها الجلوس بجانبها للحظات فأومأت برأسها فى إشاره إنها لا تمانع ... فجلست وصمتنا معا لدقيقة أو دقيقتين قبل أن أسألها هل لي أن أقدم لكِ أية مساعدة؟
أين تسكنين؟
لم تجبني ونظرت فى الأرض وقالت بصوت خفيض:
-    هل تعرف الرسول محمد؟
باغتني سؤالها المباشر فلم يسعفني ذهني بإجابة
كررت السؤال: هل تعرف الرسول محمد؟
-    ليس تماما وكل يوم أتعرف إليه قدر المستطاع
-    هل أنت عربي؟
-    نعم أنا مصري!
-    أنت محظوظ فالرسول محمد هو أيضا عربي وأنا استغرب إجابتك
-    هل زرتِ يوما أي بلد عربي ؟
-    لا
فحمدت الله بيني وبين نفسي

صمت

نظرت إليها ...إذا ؟
قالت خرجت من المسجد وكنت مسرعة حتى لا يفوتني مترو الأنفاق فى هذا الوقت المتأخر فقابلت طفلا ربما فى التاسعة وكان يهرول بخطوات مسرعة ثم يعود أدراجه مرة أخرى واستوقفنى وسألني إن كنت رأيت كلبه أثناء سيري والذى فقده منذ دقائق فأجبت بالنفي فانحنى الصبي فيما يشبه الركوع وأجهش بالبكاء وتركته وانصرفت وبعد خطوات خطر لي أنه كان يجب عليّ التخفيف عنه ولكن طردت الخاطرة من ذهني حتى أستطيع اللحاق بالمترو، ثم خاطبتني نفسى بأنه لا داعي لأن أتعطل لمجرد أن صبيا سخيفا مدللا فقد كلبه !!
ثم تذكرت أنه فى أحد دروس الدين على يد شيخ مصري كان يأتي من حين لآخر ليحاضر فى المركز الإسلامى وكان الدرس بعنوان "أطفال حول الرسول" وكيف كان الرسول محمد يعطي لأصحابه الدروس العملية فى تربية أطفالهم والارتقاء بهم فى منظومة إسلامية صحيحة..
وعلمنا الشيخ أن الرسول محمد ترك لنا من سيرته كيف نشارك صغارنا أحزانهم, ولا نسخر من آلامهم ولا نسخفّها مهما بدا لنا السبب تافها لا يستحق الذكر.
عندها سنضمن بلوغ الأطفال لمستوى عال من النضج العاطفي, وسيصبحون عندما يكبرون قادرين على التسامح مع الغير ومع ذواتهم ومتقبلين لها وقادرين على احتوائها واحتواء الآخرين والشعور بهم وبآلامهم.. سيصبحون إنسانيين حقا كما يجدر بالبشر أن يكونوا.
ثم ذكرت لي الفتاة عشرات الدروس المستفادة من حديث "يا أبا عمير ما فعل النغير؟" ..
"القصة تقول: إنه كان في المدينة طفل صغير من أبناء أحد الصحابة يدعى عميرا وكان له عصفور صغير يحبه ويمضي الأوقات في ملاعبته وذات يوم مات العصفور فحزن الصبي لفقده حزنا شديدا فمر به النبي "صلى الله عليه وسلم" وقد عرف خبر العصفور, فجلس إليه مواسيا قائلا له: يا أبا عمير ما فعل النغير؟ "أي ماذا جرى لعصفورك؟" ثم لبث معه واستمع لنجواه وطيَّبَ نفسه حتى سرَّى عنه وأذهب عن قلبه الحزن".

صمتت الفتاة لحظات ثم أجهشت فى البكاء مرة ثانية قائلة:  بصوت متقطع ومتهدج "من أجل المترو تخليت عن الرسول محمد.
.......................... صمت ......................

-    ما اسمك ؟
-    زينا
-    أين تسكنين يا زينا؟
-    بالقرب من مايكوفوسكايا
-    هل تمانعين مشاركتي التاكسي ...أرغب في إيصالك لبيتك؟
فنهضت فى حركة تشير بالموافقة
جلسنا فى التاكسي فى صمت تام ومريح وكنت أنا من يبكي على حاله!!
لم أر" زينا " مرة أخرى وإن كانت تركت فى نفسي ما يذكرني بها يوميا...

 

تعليق عبر الفيس بوك