الإرهاص الحديث


يوسف شرقاوي - دمشق


بين الأدب العالمي والعربي، بالنثر البسيط إثر إلهام كان بمحض الصدفة، يمكن للكاتب صنعَ مزيجٍ مبتكِراً نوعاً جديداً بخاصيّة حديثة، تجلّي كوكب الغرب مجبولاً بالحبكة المركّبة والمفارقات الفذّة، يمكن لنوع أدبي جديد أن يعلن مولده، دون تسمية، لكننا كقارئين علينا _ بالضرورة _ نسبه لرحم ملقيه.
 على حين قريحة كان دون هوادة، بين أدب تشيخوف وقالبه القصصي، انتقالاً للأدب العربي الحديث وتطورات القصة القصيرة، تمكّنت الكاتبة الشابّة "فرح حويجة" من إنتاج هواجس جمّة مُصاغة بخليط أدبي كان نوعاً قائماً بذاته، يسلب القارئ مقته للأدب الحديث ويصبّ في قلبه نشوة وانسجاماً مع القالب القصصي حديث النشأة
تكتب فرح حويجة قصتها القصيرة بعفو الخاطر مبتكرةً معها صياغة جامعة للتفاوت الشرقي_الغربي:
بُكم الحواس:
< ارتمت سمّاعة الهاتف متدليةً من قلبها الذي ما يزال على قيد الذكرى، تلاشت مختبئةً وراء غيمة جائعة التهمت قمرة الهاتف العمومي:
"Hello from the other side"
انهمرت إلى جانب الصوت الجريح:
"hello from the out side
At least i can say that i've tried
..to tell you I am sorry for breaking your heart"
ماتت مآقيها بكاءًً، كيف أصبح الشريط الواصل للسماعة بالهاتف بين أسنانها؟ لعلّه الوجع الذي ما انفكّ يحشر اليأس فيها، لم تكن لتفتح عينيها كي تتأمل انعكاس كَسرها في الجدران البلورية، متى تعلمت الغناء؟
تتأرجح السماعة:
"Hello, can you  hear me? .. I am in california dreaming about how we used to be"
يصرخ بها الألم:
"hello from the other side"
ولكنها صامتة، كيف ستغني وهي لا تملك صوتاً؟
ستظلّ مراراً تحاول أن تتحدث.
ماذا وإن بتر القدر لسانها؟ من أين ستُغنّى قصائد قلبها؟
لن ترتعش الكهرباء في جسدها مجدداً، لن تميتها كهرباء هذا الحي الرديء كما بكمتها ذات يوم في طفولتها.
تتأرجح السماعة، تراه قادماً! تغفو حبيبات المطر جفافاً فوق قلبها، نغم الخطوة سمعها الملحوظ، تعبر من أسفل خطاه الذكريات.
"I must've called a thousand times"
انتحبت أزرار الهاتف، وحدها من يتهيّئ للقسم عنها في حضرته، هذه الأزرار كانت خدّها، وما بين فراغاتها خبّأت اختلاسات الدموع.
"to tell you I am sorry for breaking your heart"
شهقت، تُراه سمع!
تلفّتت إلى انقطاع الذِكرى بعدما عبرت الخطوات عبرها وما عادت تترقب قدوم أحد.
تأرجحت السماعة، كانت تراقبه من بعيد ترمي له عند بابه القليل من الورود، تنسحب خائفةً كلما حاصرها بقيد الكلمة.
"Hello ..it's me"
 كانت واثقة، ترعبها رؤية صمتها في عينيه، سيرحب بها، سيعترف بحبه وتكتفي هي بإيماءات باهتة، ستختنق قبل أن تموت الكلمة فيها فلا تخرج.
أدارت ظهرها وهربت وتركته للسنين كي يمحي لقاءهما في الحي الصيني الأنيق، واليوم تسمعه يناديها في كل مكان، في اللافتات والمكتبات تاركاً لها إشارةً على روايته الجديدة بإن مُتُّ فأحييني بصوت.
وتركت بكاءها مع صوت آديل المبعوث من هاتفها كآخر ذكرى حية منها، قبل أن تفجّر روحها الجدران البلورية وتطير للسماء مستردةً لغتها المبتورة، تغني:
"hello from the out side"
واللسان المبتور ظلّ مع جسده لأيام في القمرة إلى حين دفنه أحد المارةً دون أن يتذكرها أحد، سوى كاتب انتهى به الأمر مشنوقاً في العنبر رقم 23. >
وكمتناولين للأدب حفاظاً على المصداقية، علينا التسليم بأنّ هذه المفارقات لم توجد بقطعة أدبية كاملة قبل حين بالأدب الحديث، بين المطلع والعرض والقفلة، وبأن القصة قد جمعت بين أدبين جالبةً معها تقبلاً للقارئ الذي مل الخليط العبثي، وما أحوجنا إلى نوع كهذا لا يشتت القارئ المحبّذ لأدب من الأدبين، بل يجمع بينهما بقالبه الخاص.

 

تعليق عبر الفيس بوك