ما بين الركض والراحة

 

 

 

بلقيس بنت خلفان الشريقية

كنتُ في حديثٍ عابر مع إحدى الزميلات قبل أيام، حديث من تلك الأحاديث السريعة التي لا نتوقع أن تترك أثرًا، لكن بعض الكلمات- وإن قيلت بلا قصد- تبقى عالقة كأنها تُلامس شيئًا دفينًا داخلنا. كنَّا نتبادل الكلام حول ضغط الأيام، وتزاحم المهام، وتلك المحاولات اليومية لترتيب الفوضى من حولنا، وبين جملة وأخرى قالت لي عبارة توقفت عندها طويلًا: "أصعب ما في الحياة أن نُحاول الموازنة بين المتعة والألم."

كانت جملة بسيطة، لكنها اخترقت طبقات الانشغال كلها، واستقرت في ذهني، وكأنها أعادت ترتيب كثير من الأفكار التي كنت أمرّ عليها مرورًا عابرًا. ولعلّ تلك اللحظة أعادتني إلى قانون نفسي دقيق لطالما مرّ أمامي دون أن أتوقف عنده بعمق: أننا كبشر لا نتحرك في هذه الحياة إلا بدافعين أساسيين: المُتعة والألم.

وبالتأمل أكثر، ندرك أن المتعة هي الشرارة الأولى، تلك الومضة التي تشتعل في اللحظة التي نتخيل فيها حلمًا قريبًا، أو نرى صورة لمستقبل نريده لأنفسنا، أو نشعر بذلك الأمل الذي يجعل القلب يبتسم قبل أن تصل إليه اليد. لكن المتعة - رغم جمالها - لا تكفي وحدها، لأنَّ الطريق بين الأمنية والإنجاز طريق طويل، تسكنه محطات من التعب، وأيام من الصبر، وساعات من السهر، ولحظات من الحرمان، وتضحيات لا يراها أحد.

ومن هنا، يبدأ الكثيرون بالتساقط. فالناس تحب المتعة التي في الحلم، لكنها تخاف الألم الذي في العمل. يريدون النتيجة بلا ثمن، ويرغبون في الوصول دون أن يمرّوا بوعورة الطريق. وعندما تشتد عليهم الصعوبات، ينسحبون. لا لأنهم غير قادرين، بل لأنهم لم يدركوا بعد هذه الحقيقة البديهية: كل نجاح يبدأ بمتعة، لكنه لا يكتمل إلا بألم يبني صاحبه من الداخل قبل أن يظهر أثره للخارج.

ولذلك، فإنَّ المتعة تمنح الإنسان بداية الطريق، أما الألم فهو الذي يصنع القدرة على الاستمرار، ويزرع الإصرار في القلب، ويشكّل الشخصية التي تقوى وتشتد مع كل خطوة. ومن استطاع الجمع بينهما- ألا يهرب من الألم ولا يتخلى عن المتعة- فقد عرف سرّ الانتصار.

ولكن العبارة التي قالتها زميلتي أعادتني أيضًا إلى جانب آخر من الحياة: أننا أحيانًا نركض بسرعة لا تسمح لنا بالنظر إلى أنفسنا. نعطي العمل أجمل ما فينا، ونمنح الآخرين كامل طاقتنا، ونستجيب لكل ما يُطلب منَّا، بينما نترك لأنفسنا الفتات. وعندها يفقد النجاح لونه الحقيقي، وتبهت الحياة، لأن البهجة ليست فيما ننجزه فقط، بل في لمن ننجز، وكيف نعيش، وبأي قلب نحضر في حياة من حولنا.

ومن جهة أخرى، فإن الإسلام سبق كل هذه النظريات الحديثة حين وضع ميزانًا دقيقًا للتوازن، ميزانًا يضبط حركة الإنسان بين دنياه وآخرته دون إفراط أو تفريط. يقول الله تعالى:
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ ٱلدُّنْيَا﴾ (القصص: 77).
آية قصيرة، لكنها ترسم بوضوح الطريقَ الذي يجب أن نسير فيه: السعي، دون أن يتحول السعي إلى ابتلاع للإنسان.

ثم يأتي حديث النبي صلى الله عليه وسلم ليُكمل الصورة بدقة أكبر: "إن لبدنك عليك حقًا، وإن لأهلك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقًا".

وكأن الحديث يقول لنا: النفس ليست آلة تُستهلك، بل أمانة تحتاج رعاية، ورفقًا، ومساحة للراحة. وأن العمل بلا توقف ليس إنجازًا، بل إنهاكًا يسرق منا صحتنا وعلاقتنا وطمأنينتنا دون أن نشعر.

ولهذا، فإن الراحة ليست ضعفًا، والتوقف ليس كسلًا. إنهما وعي بحدود الطاقة الإنسانية، وفهم للمسافة التي يمكن للإنسان أن يقطعها دون أن يخسر نفسه. فكما تحتاج الأرض موسمًا من السكون لتعود وتثمر، تحتاج الروح أيضًا إلى لحظة هدوء كي تستعيد قدرتها على العطاء من جديد.

وبهذا المعنى، لا تجعل أحدًا يقنعك بأن الركض المستمر هو النجاح. فبعض التوقفات تنقذ حياتك، وبعض الصمت يعيدك إلى ذاتك، وبعض المسافات التي نأخذها بعيدًا عن الضجيج تمنحنا البصيرة التي لا يمنحها أي إنجاز مادي.

تذكر، لن يبقى معك سوى نفسك التي تعبت ووقفت ونهضت من جديد. فالحياة لا تُقاس بعدد الإنجازات ولا بطول ساعات العمل، بل تُقاس بقدرتك على أن تعيش وأنت مطمئن، متوازن، تعرف متى تمضي، ومتى تتوقف، ومتى تعطي، ومتى تلتفت إلى قلبك لتسمع ما يقوله لك بصوت خافت.

دع الأيام تمضي دون أن تستنزفك، وأمسك بزمام وقتك قبل أن يأخذه الآخرون منك. لا تنتظر اللحظة المناسبة لتعيش؛ اصنعها الآن. خفّف خطوك، وامنح ذاتك ما تستحقه من العناية، واسمح لقلبك بأن يستريح قليلًا؛ فالقلب الذي يجد راحته هو القادر على أن يمنح الآخرين أجمل ما فيه.

العمر لا يليق به أن يكون سباقًا بلا نهاية ولا معركة طويلة تُستهلك فيها الأرواح. فالعمر مساحة للطمأنينة، للابتسامات الصغيرة، وللأحاديث التي تُبنى عليها الألفة. امضِ في طريقك بثبات، ووازن بين ما يفرحك وما يرهقك، وكن رحيمًا بنفسك… فهي الرحلة الوحيدة التي لا تتكرر، والرفيق الوحيد الذي سيبقى معك حتى النهاية.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة

z