عبد الله العليان
جرى بيني وبين أحد النخب الفكرية الوطنية قبل أيام مضت، نقاشاً حول الضجة التي أثيرت بمناسبة زيارة وفد من صندوق النقد الدولي إلى منطقة الخليج مؤخراً، وما قيل عن النصائح أو المقترحات التي قدمت، عمّا سُمِّي بالإصلاحات الاقتصادية الهيكلية وفق النظريات الاقتصادية، أو ما عرف بـ"سياسات التثبت" أو "التكيّف الهيكلي"، ومنها ـ كما نُشرـ رفع الدعم عن بعض السلع الأساسية- وقد رُفع بعضه- وكذلك تخفيض الرواتب، وزيادة الرسوم، وغيرها من السياسات لمواجهة الظروف الاقتصادية بعد انخفاض أسعار النفط. وقد روى لي في هذا الحديث أحد المسؤولين أن دولته تعاملت مع صندوق النقد الدولي و"نصائحه" من عدة سنوات، وقد عاش هذا المسؤول في الغرب سنوات طويلة، في العمل الدبلوماسي، لكن دولته استطاعت أن تتجنب الكثير من النصائح إياها، فلو وافقت على ما قدم لها- كما قال- لغرقت في مشاكل لا أول لها ولا آخر، اجتماعياً واقتصادياً وحتى سياسياً، وهذا المسؤول خبير بالغرب ومؤسساته الاقتصادية، ودوافعها الأخرى التي لا شك لها سياسات من خلال دولها تنفذ أفكاره، وهذه المؤسسات ليست هيئات ـ للأمر بالمعروف ونهي عن المنكر ـ ولا هي جمعيات خيرية للنفع العام ـ لكنها لها أهداف وخطط تحققها لدولها، وهذا متوقع في ظل التنافس والصراع الدولي، والرغبة في الهيمنة والتسلط، لا تخفى على المتابع الحصيف، ولا شك أنّ دولا كثيرة وقعت في مشكلات كبيرة حصلت بسبب بعض في شراك البرامج أو النصائح التي تقدمها هذه المؤسسات، ومنها فنزويلا التي حصل لها منذ عقدين من الزمن!
والغريب أن هذه المؤسسات التمويلية الكبيرة، تسكت عن آثار هذه القرارات على استقرار هذه، ولا تلتفت لها أبداً مع أنها متوقعة!، خصوصاً على الحياة الاقتصادية الاجتماعية والهجرات للمدن، التي لاشك أن تأثرها سيكون واضحاً عندما تتفاقم المشكلات الاجتماعية، سواء من حيث التخفيض للرواتب، أو الزيادة غير المعقولة للضرائب، وهذا من أخطر المشكلات على التنمية نفسها، ففي غياب الاستقرار تتراجع التنمية والاستثمار، والتراجع يعني مزيداً من التوتر ومزيداً الحاجة للتوظيف، ومزيداً من الاقتراض من هذه البنوك، ومزيدا من الشروط من هذه البنوك؟! والأمر الأهم أنّ الرؤية الواضحة للخطط الاقتصادية الجيدة، يتم من خلال تكافؤ الفرص، والتوزيع العادل، وتنمية النمو، إلى جانب المحاسبة، ومحاربة الفساد الخ: كأحد أهم الجوانب التنموية التي تسهم في زيادة الإنتاج، وفي تحفيز الحراك الاقتصادي وتنوعه.. إلخ: والغريب أنّ الغرب الرأسمالي الذي أخذ بالنظريات الاقتصادية (الكنيزية وغيرها) منذ أكثر ما يقرب من قرن، راجع الكثير من المفاهيم النظرية الرأسمالية، وأصبح الضمان الاجتماعي أحد أهم التطبيقات في دول أوروبا، خاصة بريطانيا وفرنسا، وغيرها من دول أوروبا، وأصبح العامل في أوروبا الغربية، يكتسب حقوقاً حتى أفضل من العامل في الدول الاشتراكية قبل انهيارها، وهذه جاءت بعد بروز النزعة الاشتراكية في الغرب، كرد فعل على الرأسمالية المتوحشة، خصوصاً النظرية الماركسية التي كانت أكثر حدة، في نزعتها الفكرية في الفكر الاشتراكي.
لكن الذي جلب الاستقرار الاقتصادي والسياسي، ليس سياسات النظريات الاقتصادية التي روجعت وهذبّت، في ظل الحريات العامة في الغرب بعد الحرب العالمية الثانية، والتداول السلمي للسلطة، لكن النزعة الرأسمالية وربيبتها الليبرالية الجديدة أعادت مرة أخرى بقوة من ـجل تثبيت وتكييف النظرية الاقتصادية الكنيزية، أو كما تسمى بـ (النظام التلقائي) حتى ولو في غياب العدالة الاجتماعية!، ودور الدولة في هذا النظام (اقتصاد السوق)، وهذا لاشك له مساوئ كثيرة، لو ابتعدت الدولة عن مهمتها في إدارة الموارد الأساسية، وتكافؤ الفرص... إلخ: فلا بأس من أنّه في ظل التحولات الاقتصادية، وتراجع الكثير من الموارد، أو لسد العجز في الموازنات أن تلجأ الدولة إلى الترشيد، أو فرض بعض الضرائب، لكن أن تكون هذه القرارات متوازنة ومقبولة، وليس قفزة كبيرة دون محاذير لأي تطبيقات دون الانتباه للواقع وتحدياته، أو حرقاً للمراحل، وأتذكر حديثاً لجلالة السلطان قابوس المعظم في منتصف السبعينيات من القرن الماضي مع الكاتب الصحفي اللبناني المعروف سليم اللوزي رحمه الله، صاحب مجلة (الحوادث) الشهيرة، يقول جلالته (الذين يسعون إلى حرق المراحل، لا يسعون إلا إلى حرق أنفسهم)، والكلام كان حول الفكرة الشيوعية عند بعض النخب السياسية العربية، ممن تأثروا بالفكر الماركسي وفشلت تطبيقاتهم بعد ذلك.
وهذا السياسات أو الحُزم كما التي يطرحها صندوق النقد الدولي، تحت بند النصائح أو الرؤى في جانب النفقات، لها سلبياتها الكبيرة مع الوقت، وهي السياسات ـ كما تقول الدكتورة محيا زيتون ـ تعني "خفضًا كبيراً في الدعم الحكومي للسلع الاستهلاكية والوسيطة ولمشاريع القطاع العام، كذلك السيطرة على معدلات نمو الأجور والمرتبات بالميزانية العامة للدولة من خلال تجميد الأجور والمرتبات للمشتغلين الحاليين أو خفض معدل نموها، وأيضا من خلال الحد من الاستخدام من قبل الحكومة وفي المشاريع العامة والتراجع عن سياسات ضمان تعيين خريجي نظام التعليم في الوظائف العامة". هذه بعض النصائح التي تقدم، وكأنها تريد غل يد الدولة عن تقديم خدماتها للمواطنين، وهذه بلا شك من المخاطر الاجتماعية وليس العكس، وكل هذه الأفكار هدفها تطبيق الخصخصة على كل المستويات، وإعطاء المستثمرين الفرص على نطاق واسع دون محاذير ودون أن تتحقق الفرص للعمالة الوطنية أن تكون لها الأولوية في مشاريع الاستثمار وفق العدد الذي تريده الكثير من الدول للقضاء على الباحثين عن عمل، ومن هنا يجب أن تتجنب النخب السياسية والاقتصادية، ومنها السلطنة، مما يطرح من أفكار تجاه عجز الموازنات من قبل صندوق النقد الدولي، فمراجعات السياسات الاقتصادية، وترشيد الكثير من النفقات، والاهتمام تنويع الاقتصاديات الوطنية، واستغلال الموارد بالصورة الصحيحة، تعد أهم المراجعات التي تسهم في سد العجز، بدلاَ من النصائح التي لا تتناسب وواقعنا الفكري والثقافي والاقتصادي، ونقل السياسات من شعوب ودول أخرى وتطبيقها على واقع مختلف تماماً، وهذه ليس لها محاذير وسلبيات فقط، لكنّها فاشلة واقعياً، لأنّ تطبيق الأفكار، كمن يزرع ثمرة في مكان لا تتناسب مع تربته، وأنّ البيئة تكون حاضنة للأفكار والفلسفات التي تكون من واقعها.