≥ الثورة الصناعية الرابعة أوجدت مُمارسات إنسانية أخذت بنظامنا البيئي إلى معاقل خطيرة.. أخلت بطاقة عناصره واتزانها
≥ توصيات "منتدى عُمان البيئي 2018" انعكاسٌ لإيمان المشاركين بمكانة المنتدى كأحد روافد التفكير الإنمائي لتحقيق الاستدامة
≥ كان لافتا الإصرار على أن تنال توصيات الدورة الحالية حظ سابقتها من العناية والتبني بتحديد الجهة المنفِّذة لكل منها
≥ الجميع مُطالب بالمبادرة لإحداث التغيير من داخله والتخلى عن النظرة القاصرة التي تلقى بالكرة في ملعب الهيئات حكومية كانت أو خاصة
حاتم الطائي
مقولة "الإنسان ابن بيئته"، والتي ظلَّ تأويلُها طوال قرون مُقتصرًا على البُعد الاجتماعي، الذي يرى في البيئة مجرد مُحيط يعيش فيه الإنسان يتطبَّع بطباعه ويتخصَّل بخِصَاله، وما تعاقَب على تأكيد ذلك من نظريات تبنِي وتؤصِّل لذات المعنى، باتَ بإمكاننا اليوم -وبفعل ثورةٍ صناعيةٍ رابعةٍ، تهدِّد الأمن البيئي من حولنا- أن نُحمِّلها بُعدًا معنويًّا جديدًا مفاده أنَّ الإنسان -والمُواطِن المسؤول تحديدًا- هو ابنٌ بيئته النظيفة؛ باعتباره أحد أهم مُكونات النظام البيئي والإكولوجي والمَجال الحيوي من حوله؛ وأكثر الأحياء تأثيرًا فيه وتأثرًا به، وأنَّ هذه البيئة هي أساس ودعامة ارتقائه البشري.. في علاقةٍ نفعيةٍ تبادليةٍ، باتت اليوم أكثر حاجةً لأن تُضبَط وتُقنن، لتُبقَي البيئة قادرة على تلبية متطلبات حياتنا وحياة الأجيال من بعدنا، وهي في الحقيقة حاجة مشروعة، أَمْلَتها ظروفٌ وممارسات لا تُعد ولا تحصى، بطلُها الإنسان، وشخوصها الثانوية من صُنع يديه، أخذت بنظامنا البيئي إلى مَعَاقل خطيرة، أخلَّتْ بطاقة عناصره واتزانها.
.. إنَّ الإشكالُ الحاصل اليوم في علاقة الإنسان ببيئته، يُشكل مُهدِّدًا حقيقيًّا، توالتْ القممُ العالمية، والمؤتمراتُ والفعالياتُ المحلية والدولية، مُحاولِةً إيجاد تشخيص دقيق يضمن علاجًا ناجعاً لتداعياته، ويوجِد خارطة طريق نحو عالمٍ أكثر تصالحًا مع البيئة، وهي أمانةٌ باتت تنُوء بحملها وزارات البيئة والشؤون المناخية في كل دول العالم، والمنظمات الدولية المختلفة، والأمم المتحدة والمكاتب المتخصصة المنضوية تحت مظلتها. وكإحدى هذه المنصَّات -المحلية تنظيما، الدولية مشاركةً وحضورًا- الهادفة لضبط إيقاع العَلاقة بين الإنسان وبيئته، اختتم "مُنتدى عُمان البيئي" مُنتصف الأسبوع الماضي، أعمال دورته الثانية "نحو تأصيلٍ منهجيٍّ للمواطنة البيئية"، بعد يومين كاملين أتيحتْ الفرصة فيهما أمام خبرائنا والمختصين من داخل السلطنة والأمم المتحدة -وبشراكة إستراتيجية مع مكتب حفظ البيئة بديوان البلاط السلطاني، ودعمٍ من وزارة البيئة والشؤون المناخية كأكبر جهتين حكوميتين تُعنيان بالبيئة في السلطنة- لأن ينصبَّ التركيز على تبنِّي التفكير الإستراتيجي، عبر نقاشات هادفة وبناءة، وامتزاج للأفكار وتلاقُح للرؤى، تمخَّضت جميعُها عن صياغة دليل عمل مُحكَم، يقود نحو مستقبل بيئي مُستدام، بآليات واضحة أساسُها الإنسان الواعي بواجباته البيئية، وهي الغاية التي حققت التناغم بين محاور النقاش الأربعة: "المواطنة البيئية.. من السلوك إلى المسؤولية"، و"قوانين حفظ البيئة.. ثنائية التشريع والتنفيذ"، و"الاستثمار البيئي.. آفاق جديدة للنمو الاقتصادي"، وأخيرًا: "الإعلام الجديد.. أخلاقيات تعزز التوعية".
فالتوصيات التي خرج بها المنتدى في دورته للعام الحالي، هي انعكاسٌ لإيمان المشاركين بمكانة المنتدى -رغم عُمر فترة انعقاده القصير زمنيًّا- كأحد روافد التفكير الإنمائي لتحقيق الاستدامة البيئية؛ حيث نادى الخبراء والمختصون في البيان الختامي بالعديد من الموجِّهات المؤسِّسة لمرحلة جديدة في مستقبل العلاقة الإنسانية-البيئية؛ عنوانها الوعي والتثقيف البيئي المعزِّز لمواطنة بيئية أكثر مسؤولية.. وما الدعوة لصياغة تشريعات تُنظِّم استثمار رأس المال الطبيعي، وتأسيس صندوق خاص لدعم البحوث البيئية من أجل المحافظة على المكونات البيئية بالسلطنة، وتعزيز مشروعات البحث والتطوير في سائر الموضوعات ذات الصلة بالتنمية المستدامة، سوى ترجمة لعلو سقف طموحاتنا البيئية الهادفة لإيجاد إنسان جديد مُتسلح بدرع "المواطنة البيئية" الآمن، وهو ما استدعي -ولزيادة حجم الإفادة- الدعوة لإنشاء شبكة للإعلام البيئي، تختصُّ بتعزيز الاتصال والتواصل بين الجهات البيئية والإعلامية الوطنية؛ ودعوة الصحف ووسائل الإعلام لتخصيص مساحات مناسبة لرفع الوعي بأهمية صون الطبيعة والحياة الفطرية؛ بهدف تنظيم جهود التوعية الإعلامية بالبيئة.
ومن منظور إنمائي مختلف، وكأحد أكثر الجوانب تعلقًا بملفِّ المواطنة البيئية المسؤولة؛ كانت الدعوة لتنظيم فرص الاستثمار السياحي الصديق للبيئة، ضمن وحول المحميات الطبيعية، مع الأخذ بعين الاعتبار أولوية السكان المحليين، وخلق مشاريع اجتماعية اقتصادية بيئية عبر تأسيس شركات أهلية، وتحفيز المؤسسات والأفراد الداعمين لجهود حماية البيئة، وتشجيع المبادرات والمشاريع الرائدة بيئيًّا، واستهداف الاستدامة في مشروعات البحث والتطوير في مجالات الطاقة المتجددة، ووضع إستراتيجيات لإدارة المخلفات بشتى أنواعها، وإعادة الاستخدام والتدوير، مع ضرورة تنسيق جهود كافة الجهات المعنية من أجل تطبيق العقوبات الرادعة ضد منتهكي الحياة البرية والطبيعية، وهو ما خُصصت لها توصية بالدعوة للإسراع في البت بإشكالات التقاضي في القضايا البيئية على صعيد المحاكم الوطنية بمختلف مراحلها.
... لم تغفل توصيات الدورة الثانية من المنتدى -والتي رسَّخت عمليًّا وللعام الثاني على التوالي لمفهوم "الشراكة المجتمعية" الجادة- المشاركة الأهلية؛ إذ تبنت تجديد الدعوة بضرورة إشراك كل أطياف المجتمع في مُختلف الفعاليات والقضايا ذات العلاقة بصون البيئة وحفظ مفرداتها ومواردها الطبيعية، ومن أجل فاعلية أكبر كان من الضروري التأكيد على أهمية مُواصلة تنفيذ برنامج التعليم والتوعية البيئية بالتعاون مع وزارة التربية والتعليم، والمخصص لطلاب المدارس والكادر التدريسي والإداري فيها، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة التوسع الكمي والنوعي، وإضافة أنشطة بيئية متنوعة لا صفية، مع تضمين مقررات دراسية جامعية ومواضيع بحثية ذات صلة بالسياسات البيئية والاقتصاد الأخضر والتنمية المستدامة للباحثين في مستويات الدراسات العليا، وتعزيز المناهج المدرسية لصفوف الحلقتين الأولى والثانية للتعليم الأساسي بالمواد المعنية بأهمية المحافظة على البيئة ونظافتها، وهي الضمانة الحقيقية لاستدامة بيئية ترعاها وتعتني بها أجيال المستقبل القادرة على الوفاء بواجباتها نحوها.
لقد كان لافتًا هذا العام الإصرار المتنامي من المشاركين وخبراء لجنة التوصيات على أن تنال توصيات الدورة الحالية حظَّ سابقتها (الدورة الأولى من المنتدى 2017م) من العناية والتبنِّي؛ وأن تُبصر طريقًا مختصرًا نحو التحقق على أرض الواقع؛ وهو ما عكسه هذا التمسُّك بضرورة التأكيد على تحديد الجهة المنفذة لكل توصية، وأن يكون مكتب حفظ البيئة هو الجهة المنوط بها متابعة وتنسيق آلية التنفيذ، وهي في الحقيقة أهم ممكِّن عملي للاستدامة.. صحيح أنَّنا نَعِي أنَّ الطريق نحو طليعة الاستدامة البيئية طريقٌ شاقة وطويلة، إلا أننا -كلجنةٍ منظِّمة- وبعد النجاح المتحقَّق لدورتي المنتدى، والزخم المصاحب لأعمالها، والإشادات المتوالية بحجم المنجز الحاصل لها، نُراهن على قدرة هذا المحفل البيئي السنوي في تهيئة بيئة نقاش مثمِر بنَّاء؛ يستهدف صياغة حاضر ومستقبل أبنائنا، وضمان حقِّ الأجيال المتعاقبة في الاستفادة من مواردنا الطبيعية ومقوماتنا البيئية بشكل أكثر عدلاً وتوازنًا.
ويبقى أن أقول إنَّ حديثًا عن التوصيات التي خرج بها منتدى عُمان البيئي في دورته الثانية، لا يستقيم بأية حال بعيدًا عن اضطلاع الجميع بمسؤولية دعمها وتبنِّيها، والتخلى عن النظرة القاصرة في التعامل مع نِتَاج أعمال مثل هذه المنتديات، التي تُلقي بالكُرة في مَلْعَب الهيئات وَحْدها -حكومية كانت أو خاصة- فعنوان الدورة الحالية يستهدف المواطن بالأساس، وعليه أن يُبادر هو لإحداث التغيير من داخله ابتداءً، ومن حَوْلِه كهدف أساسي؛ وأن تكون لدى الجميع قناعة بأننا حين نخدم بيئتنا فإنما نخدم أنفسنا، فالمنفعة العامة والخاصة، مُخطَّطان دائريَّان يتقاطعان في مساحة أكبر بكثير مما نتصوَّر.
وفي الأخير.. كل الشكر والتقدير لكافة الجهات الداعمة والمسانِدة، والخبراء والمختصين المشاركين بأعمال الدورة الثانية، وأجزله إلى معالي محمد بن سالم التوبي وزير البيئة والشؤون المناخية، وسعادة خالد بن سالم السعيدي الأمين العام لمجلس الدولة، لرعايتهما الكريمة، التي كان لها عظيم الأثر في إنجاح أعمال المنتدى هذا العام.