عبدالله العليان
قد لا يعرف الكثيرون أن الاحتلال الفرنسي لسوريا تم في العام 1920، ولا نريد الدخول في تفاصيل هذا الاحتلال ودوافعه، وقد أقرت عُصبة الأمم آنذاك هذا الاحتلال، وأسمته تخفيفاً "الانتداب"، وعلى أثره قام المحتل بتقسيم سوريا إلى دويلات وفق نظم الطوائف أو وفق كثافة السكان من الناحية الدينية والمذهبية، دولة في دمشق، ودولة في حلب، ودولة للدروز، ودولة للعلويين، وبعض الأقاليم المستقلة.
هذا بلا شك يندرج ضمن أهداف الاستعمار، وفق الشعار المعروف "فرّق تسد"، لكن وعي الأمة السورية آنذاك بكل طوائفها، وقفت ضد هذا الاحتلال وقاومه دون هوادة، حتى رحل هذا الاحتلال عام 1946، وتوحدت سوريا كاملة فور استقلالها، وكانت سوريا البلد العربي المعروف بتأثيره القومي والوطني في تاريخ الأمة العربية، لكن بعض السياسات أدت إلى توترات كبيرة، بعد الاستقلال، وأضعفت دور هذا البلد خلال عدة عقود طويلة من خلال الانقلابات، والانقلابات المضادة، خصوصاً خلال حقبة الستينيات، بعد انتهاء الوحدة المصرية-السورية، لكن النظام السياسي الذي قاده الرئيس الراحل حافظ الأسد، أدى إلى الاستقرار السياسي خلال ثلاثة عقود تقريباً، لكن القبضة الحديدية العسكرية، بقيت كما كانت دون تغيير، وهذا الأمر بلا شك لا يقبل طويلا، فالشعب السوري مارس التعددية السياسية بعد الاستقلال، وكانت هناك تعددية حزبية وحريات سياسية، وهذا بلا شك جعل الأمر متفاعلاً وجودياً، في الحراك السياسي في الجانب الفكري والثقافي والاجتماعي، والتعددية السياسية تسهم في الاستقرار كثيراً، وهذا كله له تأثيره على وقف الاحتقان والتوتر، وهذا حصل في دول كثيرة استقرت من الانقلابات والتوترات لعقود طويلة، خصوصا في آسيا وفي إفريقيا، ذلك أن الحريات العامة والديمقراطية تلقى قبولاً ونجاحاً في غياب الفساد والمحسوبية.
وبعد عام 2011، عندما خرجت المسيرات بدول عديدة عُرفت بـ"الربيع العربي"، وتم خلالها تقديم بعض المطالب من دولها، تعاطت بعض الدول مع ما جرى بحكمة ورؤية سديدة، في كيفية التغلب على الأوضاع، وتهدئة الأمور والتوترات، واستطاعت بهذه النظرة الواعية، أن تنهي الاحتقانات، ونجحت نجاحاً باهراً، ولا نريد أن نسرد هنا التفاصيل، فما جرى ليس بعيداً جدًّا عن أفهام الجميع ولقرب الأحداث تاريخيا، لكن النظام في سوريا للأسف لم يتجاوب ذلك التجاوب الذي ينهي الاحتقان، ولم يتحرك الحراك الذي يقلل من الاحتقان في هذا البلد العربي المهم بالسرعة المطلوبة، بل اتجه إلى استخدام القوة المفرطة بهدف عدم الاستجابة للمطالب التي كانت متواضعة في البداية، وقال الرئيس بشار نفسه في بعض تصريحاته آنذاك، أن "سوريا غير تونس وغير مصر"!، مع أن المسيرات السلمية استمرت ستة أشهر في أغلب المدن السورية، فتم اللجوء للقوة لإجهاض هذه المظاهرات.
ونتيجة لذلك، حصلت الكثير من الانشقاقات في المؤسسات العسكرية والأمنية، وتحولت الاحتجاجات من السلمية إلى العسكرية، وغابت الحكمة والرؤية الثاقبة، لاحتواء ما جرى في هذا العربي المهم، وهذه النظرة ربما تمت في غياب الكثير من المعلومات عن الرئيس نفسه، وهو كما يعرفه الكثيرون، له نظرة جديدة لسوريا بعد حكمه للحق والإنصاف، لكنه ربما لم يجد الدافعية من أركان حكمه كما تقول بعض التقارير، للتغيير في الوقت المناسب، وهذا بسبب تراكم السياسات الشمولية المتعاقبة للنظام التي ربما غابت، أو غيّبت عنه لأسباب جمّدت التجديد والمراجعات، وكان الرئيس بشار الأسد -كما تقول بعض التقارير- يتجه لصياغة وثيقة سياسية للتغيير عام 2005، وقد كلَّف بعض المهتمين أو المستشارين، لصياغة هذه الوثيقة القانونية للتغيير، لكن الموضوع تم تجميده! ولو كانت هذه الوثيقة أنجزت وتحقق الانفتاح السياسي ولو بالتدريج، لتم إبعاد هذه التوترات والصراعات التي تجري اليوم ومنذ عدة سنوات، التي كلفت هذا الشعب الملايين من القتلى والجرحى والمشردين، وتدمير مدن كاملة، وهذا للأسف تم من جراء سياسات خاطئة، ودخلت بعدها أصابع أخرى لمصالح وأهداف كل وفق رؤيته، والنتيجة هذا الوضع السوري الصعب والنزيف الكبير للبلد والشعب، فأيهما أفضل أن تتغير بعض السياسات التي صارت لها عقود طويلة؟ أم تبقى البلد على كف عفريت من الاقتتال الأهلي والدمار المستمر الذي لا يعرف السوريون أنفسهم، ماذا ستكون عليه البلد مستقبلاً؟
الحقيقة أن الرؤية الثاقبة تستدعي النظرة الواعية لكل ما يدور، وهذا كله تم في غياب الكثير من مؤسسات صناعة القرار التي تستقصي وتستقرئ، ما يجري في الداخل والخارج، وهذا أكبر الأخطاء، حتى يتم يتخذ قرارات مناسبة، لإجهاض أية توترات أو مشكلات، والآن الوضع في سوريا لا يخفى على المتابع الحصيف، وصارت الدول تتصارع -كما كانت تاريخيا- وكأننا نستذكر ما جرى للرجل المريض "الدولة العثمانية"، بعد الحرب العالمية الثانية، التي دخلت في حروب لا ناقة لها ولا جمل، وخسرت نفسها كدولة كبرى في ذلك الوقت؛ فالدول الكبرى والدول الإقليمية أيضا، أدركت وضع سوريا الحالي، ولم يعد النظام قادراً على مواجهة أي مخططات تواجهه، بحكم الانقسام في الشعب السوري.
الحكمة الآن تتطلب أن يتخذ الرئيس بشار قراراً شجاعاً، في وقف ما يجري، من خلال رسالة للمعارضة وللشعب السوري عموما في الداخل والخارج، أن سوريا كشعب ووطن أمام خطر فعلي، ولابد من الاقتراب فيما بيننا للحل، تشارك فيه الدول التي تريد وحدة سوريا وخروجها من هذا الوضع، الذي ليس فيه غالب ولا مغلوب، والمنتصر هو الدولة والشعب، لقطع الطريق على التفتيت والتقسيم الذي يدور في أروقة بعض الدوائر الدولية، المهم أن يتم الحفاظ على هذا البلد واستقلاله ووحدته، وكل شيء يتم إصلاحه إلا التفتيت، فهو الذي سيجر سوريا لصراعات طويلة، يعلم الله وحده مداها.. فهل نأمل بقرار في هذا الظرف الصعب؟ هي أمنية الكل يتمناها.