بين يدي سارق المنشار (1)

 

أحمد بن عيسى الشكيلي

قليلة في بلادنا تلك الكتابات التي تعمل على توثيق مسيرة الحياة سواءً كانت لشخوص أو لمؤسسات، حتى وإن بدأت تنمو الآن ببطء وحذر شديدين، وإن توافرت فهي بلاشك تكون شائقة ماتعة، لأنها تأخذ القارئ إلى دهاليز مختلفة من حياة الشخص أو المؤسسة التي يقرأ عنها، بل تأخذه إلى سمات المجتمع الذي يعيش فيه، فما الإنسان وما تلك المؤسسة إلا مكونًا من مكونات هذا المجتمع الواسع، يؤثر فيه ويتأثر به، وتظل هذه المؤلفات حاجة إنسانية ومعرفية، فمن خلالها يمكن للباحث والقارئ أن يقرأ زمنًا لم يعشه وكأنه يراه أمام عينيه، هكذا عمل زاهر المحروقي في "سارق المنشار" أخذنا إلى عالمٍ مليء بالحيثيات والتفاصيل، والتي بلا شك لم تتح الظروف والذاكرة لزاهر أن يسردها كما عاشها جملة وتفصيلاً، إلا أنه مع ذلك قدّمها في قالب شائق حتى وإن صاحَبَها أحيانًا بعض التصرف والاختصار، فماذا لو عمل بعض الموظفين ممن يمتلكون مهارات الكتابة كما عمل زاهر وكتب سيرة حياته العملية وما صاحبها من ظروف وتقلبات عديدة؟

لم يتسنَ لي معرفة زاهر المحروقي معرفة شخصية، بل عرفته صوتيًا من خلال نشرات أخبار الإذاعة التي كنتُ استمع إليها، ولكنني التقيتُ به قبل أكثر من سبع سنوات في منزل أخيه مبارك في بوشر ضمن لقاء أخوي جمع عددا من الأشخاص، وكان يتحدث في تلك الجلسة بلسانٍ عربي مُبين مليء بالثقافة وسعة الأفق وبعد النظر، وبليغ بالكلمات والتعابير التي ينطقها بفصاحة، رأيته كنزًا ثقافيًا وتاريخيًا عظيمًا، وهكذا يجب أن يكون المذيع الناجح الذي يعتبر رمزاً لهوية بلده، فهو لا يقدّم نفسه على الشاشة أو خلف ناقل الصوت حتى وإن نطق اسمه صراحة، بل يقدّم وطنًا اسمه عُمان، وعليه فلابد من شكر هذا الإعلامي والكاتب الرائع الذي عمل على توثيق بعض من سيرة حياته التي قضاها في إذاعة سلطنة عُمان، شكرًا له لأنه طرق أبوابًا لم تكن تطرق من قبل، وشكرًا على من شجعه على ذلك، وأوقد فيه شعلة الحماس ليخرج لنا بهذا الكتاب القيّم، فكما تضمن بين صفحاته نقداً؛ فقد كان للشكر فيه مواضع عديدة، وكما تضمّن يأساً؛ فكان للأمل وبصيص النور مواضع تدعو للصبر وانتظار الغد الباسم، وكما كانت الصعاب تطوّق زاهر وتحيط به؛ إلا أنها ولّدت الإبداع في حياته، والشواهد التي تدل على ذلك كثيرة في كتابه، كما هي كثيرة في مقالاته التي يُتحفنا بها بين حين وآخر على صفحات صحيفة الرؤية.

سارق المنشار يؤكد كيف أنَّ الإبداع يولد من رحم المعاناة، وكيف أن الظروف الصعبة يمكن استغلالها الاستغلال الأمثل، يُقدَم المحروقي هنا تجربته في التعامل مع ما حاط به من ظروف أوقعه فيها إما فهم البشر القاصر لما يقوله الآخرون، أو تأويلاتهم المبنية على نظرة قاصرة أحادية الجانب، لأنه ليس لإنسان مهما كانت قدراته أن يعلم ما تخفيه صدور الآخرين أو يعلم بنواياهم، وبرغم من أن الكثير ممن تعامل معهم زاهر وكانوا في موقع المسؤولية يدركون ذلك جيدًا؛ إلا أنهم قد يكونون اتخذوا قرارات ما كانوا ليتخذوها لو استمعوا له وفهموا منه وآمنوا بمبدأ الرأي والرأي الآخر.

استثمر زاهر سنوات عزلته الليلية في مبنى الإذاعة استثمارًا جيدًا، فقد فتحت له القراءة آفاقاً أرحب وأوسع، حيث جعل من الكتاب له أنيساً ومن صفحاته أصدقاءً لا تُمل صحبتهم، وقد تكون تلك القراءات شكّلت إضافات جوهرية في بناء شخصية زاهر إضافة إلى ما ذكره في الكتاب من عوامل أخرى، كاستماعه إلى إذاعة BBC منذ صغره وحصوله على الكثير من المعلومات منها، هذه العزلة لم تكن طريقًا لوأد النفس وقتل الحماس، بل أخذت زاهر إلى فضاءات الثقافة والفكر،  فرُب ضارة نافعة. 

لو عمل بعض الموظفين ممن يمتلكون مهارات الكتابة كما عمل زاهر لأصبحنا اليوم أمام مخزون من التجارب تقدّم لنا كنزًا معرفيًّا شاملاً، يمكننا استخلاص الكثير من الدروس منه، يمكن  لصناع القرار أن يجدوا فيه إرثًا إداريًا سواء كان سلبيًا فيستفيدوا منه للبعد عن الوقوع في الأخطاء التي وقع فيها أسلافهم، وكذلك يعينهم لإيجاد رؤية مستقبلية واضحة لكل مؤسسة، يمكن للموظف أن يستخلص منه ما يمكن أن يرسم من خلاله خارطة طريق لمسيرته العملية، تساعده على التعامل مع ما قد يواجهه من قرارات إدارية في مسيرة حياته العملية، خصوصاً ما قد ينظر إليها على أنها سلبية، كما يمكن أن تكون بوابة له نحو النجاح، فيا ترى كم من سارق منشار نحتاج كي نتعلم كل هذا؟!

 

تعليق عبر الفيس بوك