ثلاثية غرناطة لـ"رضوى عاشور" وثلاث إشكاليات كبرى

إيغار كنيفاتي - ألمانيا


عندما تشعر بكلمات تلامس أرجاء روحك وقلبك، يمضي العقل مباشرة للفكر الذي جعلها بهذا الألق، واليد التي خطت هذه الكلمات. نحو صانع هذا الجمال، لمن بحث وسهر وتقمص وقاوم النعاس ليقدمها رواية متكاملة الفصول. إنها الروائية المصرية المبدعة رضوى عاشور، تقع هذه الثلاثية في ثلاث روايات أولهم غرناطة وثانيهم مريمة وثالثهم الرحيل.
 تعيش فصول الرواية وأنت في حالة انجذاب وتماهي تارة، و بحالة ذهول ونفور تارة، مما قد حدث ويحدث .
إنها بعض من حلم ، إنها الرواية التي تمنحك الفرح والأسف في آن واحد، فأما المفرح هو في اختراق الماضي وكأنه سهم أصاب روحنا بحب مباغت لتقع طريح هذ الغرام لنعيشه كما هو بكل تفاصيل شبقه، وأما المؤسف هو أن تصير حالنا التي كانت على مدى قرون في تاريخ البشرية حضارة وثقافة إلى ما آلت إليه بذاك الزمن من انهيار وألم و انكسار.
تبدأ الكاتبة روايتها بوصف فتاة عارية تركض حافية بالغة الحسن بعينين واسعتين يزيدهما الحزن و وجه شاحب. وكأنها ترسل رسالتها الأولى بأن غرناطة الجميلة قد ضاعت.

منسق الكتب:
أبو جعفر الوراق وجمالية العمل، تشير لنا  الكاتبة وبكل دقة عن تفاصيل صنع الكتب وتاريخها الأندلسي. فهاهو أبا جعفر يعلم صبيّه نعيم الذي وجده تائهاً بعد موت والديه واعتنى به، كيف يلضم الخيط في المخرز وبدقة وبطء يمرر المخرز و الخيط في كعب المخطوط ذهاباً و إياباً حتى يُحكم خياطته.
بقيت الكتب هاجس الكاتبة طيلة الرواية، كيف تخبأ، وكيف تُشترى بالسر، وكيف يتم تداولها بكل حيطة و حذر، وتقرأ بسرية تامة.!
 
أرادت الكاتبة في كل الرواية أن تؤكد رسالة ما:
 الكتب ثروة قد تدفع حياتك ثمناً لها، إنها موروث ربما لا طاقة لنا على حمله ..!
إنها رسالة غاية في الأهمية لشعوب قد تملك المال لكنها لا تملك الكتب.! إنها رسالة رضوى عاشور لنا الكتب مستقبلنا..

_ ((كان أبو جعفر قد اتفق مع زملائه في حارة الوراقين على نقل الكتب تحت جنح الليل إلى بيوتهم، ثم نقلها بعد ذلك في وضح النهار إلى المخابئ الدائمة في عربات، أو على ظهور البغال مموهة ببعض المنقولات وكأنهم يقصدون الموانئ راحلين، أو ينتقلون من بيت إلى بيت .و قرروا أن،يتم تدريجاً و بتنسيق و هدوء و حنكة لا تلفت أنظار السلطات .و استقر الرأي على توزيع الكتب على العديد من الأماكن: الكهوف في الجبال ،أطلال المنازل المهجورة، وسراديب البيوت .))
اشكاليتها الأولى التي طرحتها علينا:
 الكتب والحفاظ عليها حرب رهيبة ،حرب من نوع مختلف و أكثر تأثيراً، إنها حرب وجود، حرب اثبات هوية، تاريخ و حضارة، علم منهوب ثقافة تُحرق، ليموت كل شيء يمت بصلة للعرب.
أجيال وأجيال موروثها الحقيقي في الأندلس هو الكتب.
 تقاعس حسن الحفيد و قلة حيلته إلا أنه أورث حفيده مفتاح السرداب المخبئ به الكتب ،قبل موته بأيام و هو يقول لحفيده عليّ ذاك الطفل:
((_ هذا مفتاح القبو تفتحه و ترى مافيه.
فتح عليّ أول الخزائن، كانت الكتب متراصة على رفوف تمتد من أعلى الخزانة الخشبية إلى أسفلها ثلاث خزائن لم يعثر فيها سوى على المزيد من الكتب.
جلس على إحدى الأرائك مستغرباً سلوك جده وتكتمه على الأمر كأن المحفوظ في السرداب كنز مطموع فيه، أو نفائس مسروقة يخشى افتضاح أمرها. زفر مغتاظا: لا كنز، ولا مصباحاً، ولا قمقم، ولا جنيّ .. مجرد كتب عتيقة مقفل عليها كأنها كنوز سليمان !
هذه الكتب ثروة يا ولدي))
ويموت حسن و قد شعر بأنه قد أدى الأمانة وسلم لحفيده عليّ  مفتاح السرداب. الكتب.
تتوارث هذه العائلة الكتب كما لو أنها تتوارث الأملاك وقناطير الذهب والألماس .
ومع قلة حيلتهم وبحثهم عن الأمان والاستقرار، لكنهم وبفطرتهم الأندلسية أحبوا الكتب، دون أن يقرؤوها .وكأنها تحمل روحاً تجذبهم ، حافظوا عليها أجيالاً بعد أجيال بداية من أبا جعفر نهاية بحفيد حفيده علي .  إنها روح المستقبل، وروحهم التي ستستمر حتى لو تواروا تحت التراب جميعاً.!

_ موروثنا الحقيقي على هذه الأرض و أول الكتب هو كتاب الله (القرآن).


يحملك بريق خاص في عائلة أبا جعفر من بداية الرواية إلى نهايتها، إنه بريق الألفة، بريق الروح، بريق الود، أمام كل التحديات التي كانت تربطها في ذلك علاقتهم وصراعهم ومواجهتهم مع الهوية الغريبة عنهم القشتالية.
وبرغم الصمود الدائم أمام التحولات الكبرى، لم تقو هذه العائلة على الاستمرار في مواجهة التغيرات الحاصلة .

 لم تمنحنا الكاتبة هدوءاً مصطنعاً.! لم تعطينا جرعة من المخدر، لننام ونحلم بما سيكون..!
لم تلعب دور الناصح.. إذا كنتم هكذا سيكون حالكم هكذا.. وإذا مشيتم في هذه الطريق سينحدر بكم الطريق إلى كذا ..!
وهذا ما ميّزها .فتحت لنا باباً صادقاً و نسجت أرواح شخصيات روايتها بكل قناعة. تألمت فكتبت، عاشت الفرحة فرسمت بريقاً، تقوقعت على حزنها فصنعت حريقاً يحرق القلوب.
لقد كتبت لترصد قصة حصلت فعلاً، حقيقة من حقائق التاريخ المريرة! لم تجعل من الرواية ولداً من أولادها و بدأت تهديها المحبة  لتصل بها إلى بر الأمان ..!
لقد صنعت لنا رضوى عاشور طبقاً من الفواكه، فيه ما هو حلو وما هو حامض و ما هو تالف .
و أجبرتنا على أن نأكله كما هو.. و بكل ما فيه .!
أمسكت بيدنا بقوة و جعلتنا نكتشف ألم ذاك الزمن وقهره، مزجت في قارورة، خلطة ساحرة غريبة وضعت فيها الكثير من الأعشاب النافع منها والضار! ثم جعلتنا نشتم رائحة أشجار الأندلس وتربتها الندية، بطريقة أو بأخرى، ربما لتقول لنا :إن من عاش بذاك الزمن من أجدادنا، لم تُدفن معهم الأقاصيص والمآسي .! فقد تعود بشكل آخر وزمن آخر و قشتالييون جدد .!
لم تلق هذه الأسرة الهناءة بعد سقوط غرناطتها كما الكثير .


حسن و إشكالية البقاء في غرناطة بأي ثمن كان  .!
إنها تلك الفئة المستضعفة التي لا حول لها و لا قوة.  يعيش على الأمل و فقط ، يحلم بالتغيير . و لا يعرف سبيلاً لإستبقاء دولة عظمى أضاعها حكامها بخيانات ومؤامرات  . لننظر كيف تصف الكاتبة هذه الفئة:
((لم يكن يوماً ذلك الذي ضاق به صدره فاختنق، بل يوماً ويوماً ويوماً، قل ألف يوم . كل يوم يقول تفرج فتزداد تأزماً وتعقيداً عن اليوم السابق. دربته الأيام على التعلق بقشة الأمل وطاقة الضوء وإن كانت بحجم ثقب إبرة. يتشبث بها متطلعا، يبيع الأوهام لنفسه قبل أن يبيعها لصحبه ولأهل بيته، يقول: صبراً جميلاً، والغد قادم ويختلف . وما يأتي سوى العتمة والقاع المظلم للغريق. ))
 حسن ذاك الحفيد الضعيف القلب ربما لأنه  يتيم الأب وربما لأنه عاش في ظل الخوف.! في ظل الألم. فقد صورت لنا الكاتبة مشهد خوف الأم الأرملة على ابنها بطريقة قاسية. ضربته و وبخته لأنه غاب بعضاً من الوقت. ما فعلته والدة حسن مع ابنها كوّن شخصية انهزامية.و لأنه عاش اليتم و فقد أباه باكراً بحث عن عائلة و يمنحها الهدوء. زوج بناته الخمسة لأشخاص لا يعرف عنهم شيء، فقط لأنه يود لهم حياة مستقرة في (بالنسية) تجار أغنياء لا يعرف عنهم غير أنهم جاؤوا إليه ليعقدوا صفقة عمل فعقد معهم صفقة زواج ظناً منه أنه منحهم الستر.
تسجل الكاتبة لحظة عميقة من حزن مريم على زواج بناتها، بطريقة من ذاك الوقت غير مقبولة  
((بكت مريمة وأنبته بالكلام وعينيها.قالت : بعت بناتي يا حسن . قلت: أزوجهن في "بالنسية"،البعيدة فيعشن معززات بدينهن وأرضهن ومال أزواجهن الوفير، فما بقي لهن دين ولا أرض ولامال وفير !)) .
كانت شخصية حسن من أكثر الشخصيات سلبية في الرواية، أنجب هشاماً صبياً وحيداً على خمس بنات. وعلى عكس الخضوع الذي كان يعيشه هو، مارس القسوة على ابنه الوحيد .حاول أن يصنع منه نسخة عنه، لكنه لم ينجح. لم تتحدث الكاتبة عن شخص هشام كثيراً لكننا نراه هاجاً من بيت أبيه تاركاً وراءه ابنه الصغير "علي" لتربيه جدته بعد أن توفت أمه عائشة ابنة سليمة.
 لم تشأ الكاتبة رضوى عاشور أن تدخل في متاهات العائلة و خصوماتها الشخصية ، ركزت في ثلاثيتها على الشخوص المحورية  ،الطبيعة ،الحجر ،الكتب و الموت.
تقول الكاتبة بلسان حال حسن:
(( ما الخطأ في أن يتعلق الغريق بلوح خشب أو عود قشة ؟ ما الجرم في أن يصنع لنفسه قنديلاً مزججاً و ملوناً لكي يتحمل عتمة أيامه ؟ ما الخطيئة في أن يتطلع إلى يوم جديد آملاً و مستبشراً ؟ استبشر خيراً يوم تزينت غرناطة و تحلت و أضاءت قصور حمرائها لاستقبال الإمبراطور ،و راح ينتظر كغيره نتائج مقابلته لوفد من أشرف وجهائها العرب .رفعوا إليه مظالمهم و طالبوه بالتحقيق فيها .حتى أمس كان ينتظر مؤتنساً بقنديله متشبثاً بقشته ،ثم جاء اليوم و علقوا المرسوم ،و دار المنادون يذيعون على الملأ بنوده التي تجدد المحظورات القديمة و تزيد عليها :
منع استخدام اللغة العربية و الألقاب العربية و الملابس العربية و الحلي العربية و ما بقي من حمامات عربية ،و كافة الكتب تسلم لتفحص و يعاد منها ما لا خطورة فيه ،و الولادة لا يشرف عليها القابلات من نساء العرب ،و حمل السلاح ممنوع ،و على الأهالي ترك أبواب الدور مفتوحة أيام الجمع و الآحاد و المواسم و الأعياد للتأكد من مراعاتهم لشعائر دون شعائر .))
يمثل حسن جزء لا يستهان به من الأشخاص الذين غلبوا على أمرهم و قد تيقنوا بأنه لا نفع للمقاومة بل عليهم تنفيذ القوانين  دون أي اعتراض ..
نراه في موت جدته أم جعفر ليقول :
((تغسلنها على طريقتنا،ثم تلبسنها ثوبها المطرز،فأذهب لاستدعاء القس ليقرأ عليها ما يريد قراءته و يمضي .ثم أعلم أبا منصور و الخلصاء من الجيران و نصلي عليها هنا في البيت ،ثم نحملها و نخرج من الدار لنشيعها و ندفنها على طريقتهم .
كان وجهه مكتوم اللون يميل إلى الزرقة و النظرة في عينيه جامدة ،و بدا وهو يكر الكلمات كراً و كأنه حفظها و أرهقه استظهارها،ثم قذفها بسرعة حتى لا يخطئ فيها أو يتعثر . ))

_ سليمة فتاة من نور تبحث عن حياتها فتجد الموت بانتظارها.و إشكاليتها الثالثة الفتاة العربية التي تبحث عن شفاء من الموت درست و بحثت في كتب عربية لشخصيات كان لها أثراً بالغاً في الطب ..   

 
سجلت الكاتبة تفاصيل شخصية سليمة بكل دقة و حب ،جعلتنا نحبها و نرى فيها جيلاً كاملاً من النساء .
 هي اخت حسن المتميزة بعقلها هدوئها شرودها.
سليمة كانت اللبنة الأولى لفتاة لو اتيح لها لدرست الطب .
لنقرأ سوية كيف تسجل الكاتبة شغف سليمة بالكتب:
(( أتت سليمة بالكتاب و فتحته على صفحة بعينها كادت تهترئ من كثرة ما عاودت قراءتها . قرأت :
"جرد القلب فرآه مصمتاً من كل جهة ،فنظر هل يرى فيه آفة ظاهرة ،فلم ير فيه شيئاً. فشد عليه بيده ،فتبين له أن فيه تجويفاً.فقال :لعل مطلوبي الأقصى إنما هو في داخل هذا العضو،و أنا حتى الآن لم أصل إليه ؟فشق عليه.فألفى فيه تجويفين اثنين :أحدهما في الجهة اليمنى ،و الآخر في الجهة اليسرى .و الذي في الجهة اليمنى مملوء بعلق منعقد،و الذي من الجهة اليسرى خال لا شيء فيه فقال :أما هذا البيت الأيمن فلا أرى فيه غير هذا الدم المنعقد ،ولا شك أنه لم ينعقد حتى صار الجسد كله في هذا الحال ،اذا كان قد شاهد الدماء كلها متى سالت و خرجت انعقدت و جمدت ،و لم يكن هذا إلا دماء كسائر الدماء.و أن هذا الدم موجود في سائر الأعضاء .لا يختص به عضو دون آخر . وأنا ليس مطلوبي شيئاً بهذه الصفة .إنما مطلوبي الشيء الذي يختص به هذا الوضع الذي أجدني لا استغني عنه طرفة عين ،و إليه كان انبعاثي من الأول . كانت "رسالة حي بن يقظان " كتاباً من خمس كتب أخذتها سليمة من عين الدمع بعد وفاة جدها .))
لاحظوا معي متعة سليمة و شغفها و حبها المتجزر في أعماقها لإشباع روحها المتعشطة للمعرفة انها نموذجاً لفتاة أندلسيّة عربية :
((تظل تنتظر الليل، يأتي فتقرأ و تجتهد في الفهم و تدوّن، ويرهقها العمل فتغفو،  في نومها تتراكم في رأسها الأفكار والخوف من أخذ الكتب فتجفل مستيقظة وتواصل القراءة .
أي طالب هذا الذي حصيلته ودرسه كتب معدودة؟ تكرر سليمة في مرارة وضيق، تهوّن على نفسها بأن بين الكتب كتاباً بمائة كتاب خطه مولانا الأكمل والمتبحر الأفضل رئيس الحكماء الحسين بن عبد الله بن سينا، درست على يديه عبر "القانون" كتابه. وتختنق في سجن الزمان الوضيع حيث اقتناء الكتب جرم له عقوبة، وحيث الدراسة تستوجب الحرص والكتمان و التخفي، ليس فقط تمويهاً عن عين  الغيب الذي يترصد بل أيضاَ على عين القريب. لا تملك أن تقرأ نهاراً فيراها حسن أو أمها .))
ترسم سليمة حياتها عكس أخيها حسن تماماً . تعرف ما تريد جيداً تحمل عقلاً وقاداً ولأن المجتمع لا يحمل لها الاجابة على اسئلتها الكثيرة بحثت في الكتب عن الإجابات. اختارت أن تتزوج لتكون حرة نفسها، رُزقت بحب للكتب لا مثيل له.
تتحدث الكاتبة عن فلسفة الموت بلسان سليمة الفتاة التي صقلتها الأيام و الخيبات و الموت:
((لم تشارك سليمة الطهو و لا البكاء بل انسحبت إلى حجرتها. كانت تفكر في الموت الذي يقهر ويذل، وفي الإنسان أمام الموت لا حول له و لا قوة ،و في الله في السماء العالية. أليس هو الذي يقبض الروح؟ فلماذا يقبضها ولماذا يطلقها أصلاً لتحط في القلب حينا،ثم يناديها فترحل تاركة عشها الدافئ قفراً؟ حدقت في وجه جدتها الساكن في الموت فسرت في بدنها رجفة ،و اختفت بغصة في الحلق و احتبست في عينيها الدموع. ميتة جدتها ،فكيف و لماذا؟) أسئلة أرقتها وأعجزتها . أغرقت السؤال في تفاصيل بحثها اليومي عن الآفات الكثيرة التي تصيب البدن ،تستلهم الكتب وتنهمك في تجاربها. تخيب مرة و تصيب مرات .))
 لنحلق قليلاً مع سليمة وهي تتحدث عن الكتب ولقائها السري معهم، وكأنها ستلتقي حبيباً لها سراً لتمنحه قبلة الحياة التي لا ترويه بل تزيده عطشاً .
(تنتظر حتى يهبط الليل و يأوي أهل الدار إلى فراشهم فتسرج القنديل و تقرأ فيتسع السجن، رويداً رويداً، ثم تتبدد قضبانه في ضوء شمس تسطع من الكتاب وعقلها . تيأس ثم لا تيأس، تكتفي بقانون ابن سينا ولا تكتفي .
لو أمها أو جدتها عرفن كيف حصلت على كتاب ابن البيطار "الجامع" وما دفعته فيه لأتهمنها بالجنون، و ربما سقطت أمها مغشياً عليها من وطأة الخبر . وتعاود سليمة فعل العشق مرات ومرات .(يوم حملت الكتاب بأجزائه كاملة ضمته إلى صدرها الذي تسارعت دقات قلبها فيه، و كأنما يضيق بقفص الصدر و هو يرقص منفلتاً بلا حياء. الحكيم من اشترى و الذي باع أحمق.


تملك الروائية قلماً سيالاً من الصور،مخزوناً لا يُستهان به، جعلت من الثلاثية وثيقة تاريخية توثق وتؤرخ وتصور مدى ما تعرض له المسلمين من اضطهاد في تلك الفترة، امتلكت أدوات جبارة لتتحدث عن زمن تدور احداثه في مملكة غرناطة بعد سقوط جميع الممالك الإسلامية في الأندلس، وتبدأ أحداث الثلاثية في عام 1491 وهو العام الذي سقطت فيه غرناطة بإعلان المعاهدة التي تنازل بمقتضاها أبو عبد الله محمد الصغير آخر ملوك غرناطة عن ملكه ..
وصفت لنا  الأندلس وكأنها قطعة من الجنة .
أبكتني الرواية عدة مرات .. لا أدري أهي ريح الماضي أم زوبعة الحاضر التي اقتلعتنا من الجذور !
حين وصفت الكاتبة طريق الهجرة تدحرجت الدموع دون أن اسمح لها، موت الجدة  ذات الروح القوية (مريمة) كان مؤلم للغاية موتها على طريق الترحيل في أرض لا اسم لها و دفنها فيها مؤلم للغاية .
وعليّ ذاك الحفيد تنقلت الكاتبة في شخصيته بطريقة عذبة عرفنا من خلاله تفاصيل غربة في غربة .!  
وصفته تائهاً مشتتاً تارة، وتارة يعرف ما يريد تماماً. لم يتزوج وأحب في سن كبيرة نوعاً ما من فتاة تصغره بكثير، خجل من حبه ولم يعترف به، وبقيّ وفياً لحبه المحجوب عن الشمس طيلة حياته ،بل كان وفياً ومثالياً ليكون مهتماً بإبنة حبيبته التي قتلت على يد أقربائها بسبب تمردها.
أدخلتنا الكاتبة في هذا الفصل الرحيل في تفاصيل كثيرة كانت قد أبت أن تتكلم عنها في الفصليين السابقين غرناطة و مريمة.. ربما لأنها أرادت أن تقول لنا أن البشر قد تأذت و النفوس قد مرضت، وما حصل من قمع وترهيب و تخويف و قتل و تنصير و حرق للكتب، كان له ما كان من أثر عظيم في عمق الروح وعمق أخلاقهم، فراحت ترصد حوادث النهب والنصب والتزوير في أوراق رسمية لتغير ملكية أصحاب البيوت المهجورة لمن بات بلا ضمير ..
-    هل الماضي يمضي حقاً أم يعرش على أيامنا، أم أننا نعيش كالبيت فيه.؟
-    هل من يعلن الفرح في موكب الجنازة مجنون ..
حدثتنا عن مصر عن القدس عن أرض الحجاز . كانت الكاتبة تملك عصاً سحرية ترسم بها الدول بلا حدود أو حواجز .. تنتهي بآخر ابطالها المحور الأساسي تقريباً علي الذي ظل على قيد الحياة و الذي قرر مخالفة قرار  الترحيل. وأنهت تلك الملحمة الغرناطية عند علي الحفيد الثالث الذي ظل على قيد الحياة بقرار يتخذه و هو قرار العودة . العودة إلى كتب ورثها من أجداده و سيتوارثها من بعده أجيال ..
لقد كتبت رضوى عاشور بروح نادرة كأنثى.. لم أجد أية تجاوزات بشعة من تلك التي يفتعلونها لتجذب القراء أصحاب الرؤية الجنسية .!
كتبت بيد رجل و بروح انثى ما تفتقده الكثير من الكاتبات العربيات ..
لا تعرف في هذه الرواية من البطل الحقيقي تتوه منك .. في البداية ترى أن (سليمة) تلك الفتاة التي تحمل فكراً مميزاً، بأنها هي البطلة ثم تراها تموت حرقاً بتهمة ظالمة (السحر والشعوذة) يغادرك الأمل ..  تعود الكاتبة لتزرع الأمل في شخص آخر فترى هذا الشخص ينهار و يفقد بريقة ببطء و تنذوي البطولة عنه ..!
ثم تفاجئني فكرة أن الموت كان هو بطل الرواية .. نعم الموت .. ربما موت الأشخاص وربما موت الروح و ربما موت أشجار الزيتون ..
تسحرك الرواية لتمشي بين فصولها بكل سلاسة، ومع كل القهر الذي كان تبقى طيلة الثلاثية تحلم بأن النصر لا بد قادم .
إنها الرواية المذهلة ثلاثية غرناطة و رضوى عاشور المبدعة..
"لا ينطق الحجر لأن الله جعله، على غير البشر، معقود اللسان. و لكنه يعرف لأنه رأى كل شئ و كان شاهدا ساعة الرحيل..".

 

 

 

 

 

 

تعليق عبر الفيس بوك