العدالة الاجتماعية ما بين الطموح والواقع - مقاربة الأمم المتحدة

 

عبد النبي العكري

تحتفل الأمم المتحدة كل عام باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، حيث يوجه قادة الأمم المتحدة وهم حاليا الأمين العام للأمم المتحدة السيد انطونيو جيتراس والمفوض السامي لحقوق الإنسان الأمير زيد الحسين، والأمين التنفيذي لبرنامج الأمم المتحدة السيدة هيلين كلارك وغيرهم من وكالات الأمم المتحدة كلمات بهذه المناسبة، يسلطون الضوء على أهم التحديات والإنجازات والإخفاقات المتعلقة بهذا الهدف المحوري للبشرية، وللأمم المتحدة وأعضائها بالطبع كما تقام احتفالات في مقار الأمم المتحدة في نيويورك وجنيف وفيينا وبعض مكاتبها في مختلف البلدان. ولا شك أن العدالة الاجتماعية ليست من اختراع الأمم المتحدة ولا البشرية المعاصرة، ولا الدولة العصرية، بل هي مفهوم إنساني وأخلاقي، رافق البشرية وخصوصا منذ تكون المجتمعات المتحضره، وتبلور النظم السياسية الاجتماعية والاقتصادية. وبالطبع اتخذ طابع التقنين مع صدور الدساتير والقوانين للدولة الحديثة.

ونرى أنّ نزعة العدالة الاجتماعية جاءت كرد فعل على الظلم الاقتصادي والاجتماعي الذي رافق تطور الجنس البشري، منذ ظهور تقسيم العمل، الملكية الخاصة، واستغلال الإنسان لأخيه الإنسان.

ونظرة سريعة على التاريخ البشري، تظهر لنا أن هذه النزعة الإنسانية، المثالية والضرورية في آن واحد، قد جاءت بمثابة الدعوة للعدالة الاجتماعية والإنصاف والتضامن الإنساني ومساعدة الفقراء في صلب دعوات المصلحين والثوريين، وفي صلب تعاليم الأديان. يتوجب علينا أن نفرق ما بين منهجين ونظريتين في العدالة الاجتماعية، وهما منهج الإحسان والمساعدة سواء بدوافع دينية أو إنسانية، ومنهج هندسة النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، بحيث يحقق العدالة الاجتماعية، بل استهدف عند البعض المساواة الاجتماعية.  وقد تضمنت هذه النظريات وتطبيقاتها في النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بما في ذلك الدستور، والقوانين، وبُنى الدولة وآليات عملها، تحقيق العدالة الاجتماعية بوسائل عدة وأهمها توجيه اقتصاد ليخلق فرص عمل متنامية يؤمن الدخل اللائق للأسرة، وفرض ضرائب على دخول الأفراد والشركات، تتناسب مع مداخيلهم، وتوفير متطلبات أساسية مثل التعليم والصحة والتدريب والتشغيل والمساعدة الاجتماعية والضمان الاجتماعي، وضمان التقاعد. بالطبع هناك تفاوت كبير في الفلسفات والنظريات ما بين الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، وفي كل منها تباينات أيضا، ما بين الرأسمالية الليبرالية والرأسمالية الاجتماعية، وما بين اشتراكية السوق والاشتراكية الاجتماعية. كما أنّ هناك هوة واسعة ما بين النظام السياسي والاقتصادي والاجتماعي كما يروّج له النظام، وما هو جار على صعيد الواقع. واليوم وبعد تجارب البشرية المريرة ومعاناتها مع التجارب الرأسمالية والاشتراكية والشيوعية، فإنه ينظر إلى الأنظمة الناجحة بأنها التي نجحت في أن تجمع ما بين أفضل ما في مختلف النظم في نظام سياسي اقتصادي اجتماعي عادل وشفاف، ويعكس إرادة الشعب الواعية، ويحقق اقتصادا إنتاجيا ديناميكيا ونمو مستداما، يحقق العدالة الاجتماعية ويتمتع بالاستقرار وعلاقات جيدة مع المحيط، ودورًا بناءً في العلاقات الدولية. وتسوّق مثلا على ذلك البلدان الاسكندينافية ونيوزلندا وأستراليا وأيسلندا حيث تتبوأ هذه البلدان المراكز المتقدمة في العدالة الاجتماعية، والحياة اللائقة والسلم الأهلي والحريات العامة، والشفافية ومكافحة الفساد والبنية الأفضل لحياة الإنسان وسعادته.

مسيرة الأمم المتحدة لتحقيق العدالة الاجتماعية:

لا شك أنّ الذين وضعوا ميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان والذي انطلقت منه الأمم المتحدة لتحقيق مقاصدها وأهدافها في مؤتمر سان فرانسسكوا في 1945 كانوا يحملون معهم عقائدهم الدينية والسياسية والاجتماعية والسياسية المختلفة، مستلهمين قيم حضاراتهم والحضارة الإنسانية عندما صاغوا هاتين الوثيقتين. كما أنّ تواتر صدور المواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية تبعا لما أصبح يعرف بأجيال حقوق الإنسان وفي اللب منها العدالة الاجتماعية، التي تواجه عبر هذا التاريخ نجاحات ونكسات وتحقق تقدمًا وتراجعًا في صراع دائم ما بين القيم الإنسانية ونزعة الاستغلال والسيطرة والاحتكار من قبل الأفراد والشركات والدول، سواء على المستوى الوطني أو الأهلي أو الدولي.

بالنسبة للأمم المتحدة فهي تعمل على عدة مستويات لتحقيق مقاصدها الإنسانية ومنها العدالة الاجتماعية. والتي ترتبط بالتأكيد مع مقاصد وأهداف الأمم المتحدة الأخرى.

الأول: هو تبني المجتمع الدولي للمواثيق والعهود والاتفاقيات الدولية المتتالية، بحيث لا تقتصر هذه أن تكون مرجعيّة في علاقات الدول مع بعضها البعض، بل كمرجعية وطنية في التشريعات والسياسات. ونذكر منها الشرعة الدولية لحقوق الإنسان والتي تشمل الإعلان العالمي والعهدين الدوليين، والأخرى المختصة حول حقوق معينة، كالحق في التنمية والحق في العمل اللائق، وحقوق المرأة ومناهضة التمييز وغيرها.

الثاني: أقامت الأمم المتحدة إلى جانب مجلس الأمن والجمعية العامة وكالات متخصصة كالأمم المتحدة معينة لتحقيق المواثيق والعهود والاتفاقيات، ومنها ما يتعلق بالعدالة الاجتماعية. ومن هذه مجلس حقوق الإنسان ومفوضية حقوق الإنسان بجنيف ومكتب مكافحة المخدرات والجريمة في فييناو برنامج الأمم المتحدة الإنمائي وبرنامج الغذاء العالمي، ومنظمة الأغذية والزراعة ومنظمة التنمية الصناعية ومنظمة التجارة والتعاون  ومنظمة العمل الدولية والمجالس المتخصصة مثل المجلس الاقتصادي والاجتماعي. كما أقامت منظمات فرعية لكل منظمة إقليمية، مثل الايسكوا. وهدف كل منها مساعدات الدول الأعضاء للأمم المتحدة أهداف لتحقيق المواثيق والاتفاقيات لكل من هذه الوكالات والمنظمات الدولية، بما يخدم تقدم الشعوب واستقرارها وازدهارها ومساعداتها في أوقات الحروب والكوارث والأزمات وتشجيع التعاون الإقليمي الدولي.

3. إقامة مكاتب متخصصة للأمم المتحدة حسب طلب البلد المعني وإمكانيات الأمم المتحدة مثل مكتب برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ومكتب الامم المتحده للبيئة ومكتب الأمم المتحدة للتنمية الصناعية، ومكتب المفوضية السامية لحقوق الإنسان، ومكتب الهجرة ومكتب اللاجئين ومكتب منظمة الصحة العالمية ومكتب الفاو ومكتب الاسكوا وعادة ما يناط بمكتب برنامج الأمم المتحدة للتنمية بتنسيق عمل الأمم المتحدة في البلد المعني.

4. تعيين مقررين أمميين يسعون من خلال تقاريرهم ومقترحاتهم في الإسهام في الجهد الوطني والإقليمي والدولي في تحقيق العدالة الاجتماعية، مثل مقرر مكافحة الفقر ومقرر الحق في التنمية، والمقررين الخاصين لمجلس حقوق الإنسان، والمقررين المنتدبين من الأمين العام للأمم المتحدة.

دور المجتمع المدني في تحقيق العدالة الاجتماعية:

تعتبر منظمة العمل الدولية من أوائل منظمات الأمم المتحدة التي أقرت في ميثاقها، وعهودها واتفاقياتها ومعاهداتها دور المنظمات الممثلة للعمال في صياغة ومراقبة تنفيذ الميثاق والعهود والاتفاقيات والمعاهدات، رغم أنّ التوقيع على هذه محصور بالدول. ونرى التمثيل الثلاثي للدول الأعضاء في المنظمة في مؤتمرها السنوي مكونا من ممثلي الحكومات وقطاع الأعمال، وقطاع العمال. وتبع ذلك المجلس الاقتصادي والاجتماعي للأمم المتحدة، حيث اعتمد نظام العضوية المراقبة (الاستشارية) للمنظمات غير الحكومية في أعمال المجلس وكذلك الهيئات المنبثقة عنه مثل مجلس حقوق الإنسان ولجان الاتفاقيات التعاقدية. وكذلك الأمر وإن بدرجة أقل في أعمال المنظمات الدولية والوكالات المتخصصة الأخرى. كما تساهم المنظمات غير الحكومية في صياغة وتنفيذ ومراقبة الاستراتيجيات الأممية الكبرى مثل أهداف الألفية للتنمية وأهداف التنمية المستدامة 2015-2030.

تكامل الجهد الأممي للعدالة الاجتماعية:

ليس هناك منظمة أو وكالة من وكالات الأمم المتحدة تنفرد بالعمل لتحقيق العدالة الاجتماعية وليس هناك ميثاق أو عهد أو اتفاقية لوحدها تغطي العدالة الاجتماعية، وليس هناك من إستراتيجية أممية لوحدها قادرة على تحقيق العدالة الاجتماعية، بل إنّ مختلف منظمات الأمم المتحدة ووكالتها ومكاتبها الدولية والإقليمية والوطنية، تعمل في تكامل لتحقيق هذا الهدف. فهناك من هو معني بدعم الاقتصاد والصناعة والزراعة والتجارة والتنمية والعمل التي تستهدف خلق فرص عمل، والعمل اللائق وهناك من هو معني بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، للمواطنين والمهاجرين، وهناك من هو معني بحرية العمل النقابي ومنظمات المجتمع المدني في التنظيم والعمل وفي دفاع البشر عن حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. وهناك من هو معني بالحريات العامة وآليات العمل والنظم السياسية في نظام ديمقراطي يؤمن حق الشعب في إدارة شؤونه وبالتالي العمل من أجل تحقيق العدالة بكافة صورها ومنها العدالة الاجتماعية.

الجهد الوطني والاستفادة من النظام العالمي للأمم المتحدة

الأمم المتحدة قائمة أساسا كاتحاد طوعي لمختلف دول العالم المستقلة ذات السيادة وهذا نظريا على الأقل. لذا وباستثناء إملاءات دولة عظمى أو مجموعة من الدول الكبرى سواء من خلال مجلس الأمن أو خارجه، فان الأمم المتحدة تستطيع مساعدة الدول الأعضاء وشعوبها في تحقيق المقاصد والأهداف الأممية وفي تحقيق الأهداف الوطنية التي تنسجم مع مقاصد الأمم وأهدافها.

وسياسة الأمم المتحدة ومنظماتها ووكالاتها المتخصصة، ومكانتها الإقليمية والدولية، هو التعاون مع الوزارات والوكالات والأجهزة المعنية في الإقليم والدولة، مع تشجيعها لإشراك منظمات المجتمع المدني خصوصا المنظمات النقابية والمنظمات الأهلية والحقوقية. ونرى من تجارب العديد من البلدان بأن التعاون الإيجابي، مرتبط بوجود نظام سياسي ديمقراطي تعددي لا يمارس وصايته على المجتمع بل يعتبر المجتمع المدني شريكا للدولة بما في ذلك تعاونها مع الأطراف الدولية والأجنبية.