عبدالله العليان
عندما اشتدت الصراعات والخلافات في أمتنا منذ عقود وبصورة متوالية، جرى الحديث كثيراً من خلال البحوث والدراسات والمقالات، عمَّا يسمى بـ"خروج العرب من التاريخ"، وقد سبق للكاتب السعودي عبد الله القصيمي أن أصدر كتاباً منذ عدة عقود سماه (العرب ظاهرة صوتية)، وهذا يعني تهمة الظاهرة الصوتية تقترب من تهمة "الخروج من التاريخ"، فهل أصبحت الأمة على مقربة من هذا الخروج القسري؟
الحقيقة أن الأمم والحضارات، تصبها الانحدارات والتراجع عما كانت عليه، بعدما كانت ناهضة، أو تلحقها الهزائم والاحتلالات من قبل الأمم الأخرى بسبب الضعف...إلخ، وهذا يعد مؤشراً، أو على الأصح التراجع للخلف، وظهور أو بروز دول أو حضارات أخرى للصدارة، وقد ذكر بعض المؤرخون، وعلى رأسهم العلامة ابن خلدون الذي يعتبره البعض أول مؤسس لعلم الاجتماع أو فلسفة التاريخ هذا الأمر، ومن المعاصرين المؤرخ الأوروبي "تويبني"، لكن أول من تحدث عن أطوار الدول من قيامها إلى زوالها، كان العلامة ابن خلدون الذي تحدث في المقدمة عن هذه المراحل، وقد عاشها واقعياً في تلك الفترة التي حصلت للأمة، مما يجعله يدرس تلك الحالة، وبغض النظر في تقييم تلك المرحلة بظروفها التاريخية، فإن رؤيته كانت أقرب للمصداقية، وقد أيد المؤرخ البريطاني أنرلوند توينبي ما قاله ابن خلدون في مسألة صعود وسقوط الحضارات والدول، لكن ربما الأسباب تتعدد، وفق الثقافات والمؤيدات لهذا الصعود أو التراجع. وقد لخَّص ابن خلدون في "المقدمة"، بعض الأطوار كما رتبها، وقال عن الطور الأخير بالنص: "وفي هذا الدور تحصل في الدولة طبيعة الهرم، ويستولي عليها المرض المزمن الذي لا تكاد التخلص منه، لا يكون لها معه بُرء، إلى أن تنقرض".
ومع أنَّ أمتنا العربية في عصرنا الراهن لم تصل إلى مستوى الانقراض، أو الخروج من التاريخ -في رأيي- فكما يبدو أن المرض أصبح مزمناً لا شك، لكن من الحق أن نقول إن الظروف كما كانت بين فترة ابن خلدون كما عاشها آنذاك، وحاضرنا الراهن مختلفة، والإشكالية أن غالبية الآراء تلقي على الغرب ومؤامراته ما جرى ويجري، منذ أن رحل عن بلادنا من القرن الماضي، لكن هذه التهم والآراء التي ترمي بكل شيء على المؤامرات، ولا شيء غير المؤامرات، هروب من دراسة الأسباب والمسببات، صحيح أن عالم التدافع، وفق السّنة القرآنية، أو الصراع على النفوذ والمصالح، تلعب دوراً في هذا الجانب، وفي تحريك الخطط والبرامج لإيجاد ما تراه إيجابياً لمصالحها وزيادة نفوذها...إلخ، لكن هذا لا يحصل، إلا عندما يحصل الخلل في الداخل، فأذكر مثالاً عشناه نحن هذا الجيل عندما قاد العقيد معمر القذافي -رحمه الله- انقلابه الشهير على الملك إدريس السنوسي في ليبيا، في الأول من سبتمبر 1969، وطلب مباشرة من القوات الأمريكية والغربية عموماً، ولم يكتفِ بهذا، بل اتخذ من الغرب موقفاً سياسيًّا معاديًا طيلة ما يقرب من 40 عاماً من حكمه، فلم تسطع هذه الدول الكبيرة، أن تتخذ موقفا مضاداً، من هذه المواقف من هذه الدولة الصغيرة والغنية، وبقيت سياساته هكذا إلى حد أن بعض الدول الغربية، تقرّبت منه بالزيارات والمواقف السياسية الليّنة، بل إن رئيس وزراء إيطاليا آنذاك "بيرلسكوني" اعتذر عن ماضي إيطاليا الاستعماري، من جرائم في حق الشعب الليبي آبان الاحتلال، وقدمت إيطاليا خمسة مليارات كتعويض عن هذه الجرائم.
وعندما زرنا ليبيا، نحن مجموعة من أعضاء جمعية الكتاب والأدباء العمانية عام 2009، لاحظت التذمر والاستياء من بعض ممارسات النظام بشكل خافت، بسبب الكثير من السياسات الداخلية والخارجية للنظام الليبي، حتى جاءت أحداث 2011 التي برز فيها الشرخ الداخلي بصورة كبيرة، وحدث ما حدث من تدخلات إقليمية ودولية، والذي أقصده أن المؤامرات لا تتحقق لها الفرص للعبث باستقرار الدول، ولا بأمنها، ولا بتخلفها، إلا اذا كانت أمورنا مضطربة، وأحوالنا الداخلية فيها ما فيها من اعوجاج وتمزق، ومن خلالها، يمكن أن تجد هذه (المؤامرات) -إن صحت- الثغرات التي ربما تنفذ منها، لتحقيها أهدافها التي لا تخفى على أصحاب العقول النيرة، إلا أن أغلب الأسباب التي جعلتنا في هذه الأحوال والظروف السلبية إلى حد ما وصلنا إليه، هي من سياساتنا وأفكارها، ومنها، غياب العدل، والحرية، وتقديم الاستبداد والقمع، على أولوية التسامح والتفاهم والحوار.
الكثير من الدول أصابها زلزال كبير في وحدتها وفي بنيتها التحتية وهي ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية، وبعد هزيمة كبيرة لها من قبل الحلفاء، وخسائر بشرية كبيرة تقدر بالملايين، واحتلال بعد تقسيم، فهل خرجت من التاريخ؟ إلا أن هذه الأمة، استطاعت أن تستعيد نفسها، وأن تبني ذاتها قبل التوحيد وبعدها في النصف الثاني من القرن الماضي، لذلك فإن الأمم الحية، لا تستسلم للظروف الصعبة، بل عندما يصيبها الوهن والضعف والتمزق، تراجع ذاتها، وتحاول الخروج من الظروف الصعبة؛ فالاتحاد السوفييتي آنذاك أنهار وهي دولة كبرى، وتبعه المعسكر الاشتراكي كله، فهذا الآن روسيا الاتحادية، بما تبقى من الدول المنضوية في هذا الاتحاد، استطاعت أن تسترجع مكانتها وقوتها، وربما في مستوى الاتحاد السوفيتي السابق، والأمم يفترض ألا تستسلم للظروف التي وجدت فيها، بل لابد أن تقوم من جديد، لإعادة ما فاتها من نهوض وان تغير ذاتها وإصلاح الخلل، وتستفيد من الأخطاء الماضية، من خلال معالجة الأسباب والمعوقات التي جعلتها في هذه الظروف.
لذلك؛ فإن أوضاعنا الراهنة يمكن أن تتغير، في ما نحن فيه من خلافات وصراعات، وأن نحّولها إلى كتلة متراصة من الوفاق والتعاون إذا ما أردنا أن نبقى وجودياً بين الأمم، فمن الناحية الاقتصادية، ليست هناك موانع تجعلنا في ظروف مضطربة أو متوترة، إن أحسنت السياسات الرشيدة، والموقع الإستراتيجي، يعد من أهم المواقع في العالم، والثروات الطبيعية يعرفها الجميع، فما هي الإشكاليات التي تعيشها هذه الأمة على الرغم من الإمكانيات الكبيرة التي بحوزتها؟ الواقع أن التحليلات تذهب شتى في تقييم ما يجري، وفي تقييم وضعها الراهن، لكن القضية الأهم أن الأنانية وسوء تقدير المواقف، وعدم النظرة الواعية لما ستنتج عنه هذه السياسات، جعل النخب السياسية لا تنظر نظرة واقعية وعقلانية لكيفية ردم هذه الخلافات وإنهاء الصراعات، وأن المشكلات البينية، منفذ خطير للتدخلات الخارجية، والكثير من دول العالم لا تهمها مشكلاتنا كثيراً، ومن هو على حق ومن هو المخطئ فهذا لا تلقي له بالاً، فهي تقدم مصالحها من خلال تقييمات مراكز صناعة القرار لديها وهذا ما يفترض أن يأخذ في الحسبان، والحوادث كثيرة والتاريخ ملئ في هذا الشأن.. والله الأمر من قبل ومن بعد.