ســـوريــا التى لا نعرفها


أحمد عيد زايد – مصر


تنويه: الكلمات أدناه مشاعر حقيقيّة وأحداث واقعيّة ولا تمتّ للخيال من بعيد، أومن قريب بصِلة!

******************
هذه الكلمات مضى عام على كتابتها والآن أدفع بها للنشر.. فقط أردتُ أن تشعروا بما يحدث على الأرض لا أن تعلموا عنه فى خبر جاف سيء نمرّ عليه كمرورنا على خبر خسارة فريقكم المفضل وليكن البرسا أمام الريال...
إنّ مآسى أمتنا وما تحمله داخلها من كوارث وبُشريات ليس خبرًا نقرأه بل شعور وإحساس نعايشه فنحن جميعا جسد واحد، أو هكذا لا بد أن نكون كما أوصانا وأراد لنا الكريم محمد.
هذه الكلمات ليست خيالا ولكن أحداث حقيقية وأحاسيس لبشر مرُّوا بتجربة القصف وقد جمعتها من الإنصات لمشاعر عدد من إخوانى السوريين والليبيين واليمنيين ولخصتها هنا وربما بشكل يُخل كثرا بحقيقة ما يحدث في الواقع..
واعتذر لأصحابها أولا عن تقصيرنا، وثانيا لأن الأحداث التى مرُّوا بها أصعب من أن تحتويها الكلمات... ومشاعرهم أكبر بكثير وأشد إجلالا من أن تعبِّر عنها الحروف!
هل حقا نعرف ما هو القصف؟!
إنه صوت الحفيف المرعب يتصاعد وعيناك تتقلب فى السماء وصغارك معلّقون بجلبابك وأنت لا تعرف أين يتوجب عليك الذهاب يمينا أو يسارا...
تتضرع إلى السماء فتهرول يمينا فيأتيك صوت الطائره والصاروخ بوتيرة أعلى فتتوقف، وتنظر إلى السماء متضرعا مرة أخرى، ثم تهرول شمالا وتظل هكذا حائرًا لا تعرف إلى أين تذهب حتى يقرر الصاروخ أن ينتهى من الحفيف وينفجر ليحصد بعض الرؤوس المحدده سلفا وعليها بعض الرؤوس الأخرى التى ببساطة يسمونها "أضرار جانبية" ولا تعلم إن كنت ذاتك وصغارك ضمن قائمة قتلاه الآن أم إنك على قائمة الانتظار، أو شملتك قائمة "الأضرار الجانبية"!
القصف يا صديقى هو أن تغمض عينيك وتتخيل أنك بأعجوبة نجوت لتأخرك فى مراسم دفن أمك التى قتلها القصف فى محافظة أخرى وما زلت فى طريق عودتك للمنزل... ثم تقترب من بنايتك فتسمع دويَ انفجار ضخم فيرتعش قلبك وتهرول فى اتجاه بيتك راجيا أن يكون بعيدا عن زوجتك وأطفالك.. الآن أنت أمام الذي كان يوما (ما) بيتك وهو يحترق ويتهدم أمامك ثم هذه طفلتك مريم تأكلها النيران وتراها من تلك الفرجة الضيقة التى كانت يوما (ما) بابًا لبيتك قبل أن يسدها الركام الملتهب...
مريم تشتعل أمامك وتكاد تسمع صوت شحمها ولحمها وهو يُشوى وتمد يدها تستغيث أن تنقذها وأنت لا تستطيع لها سبيلا.... يدها التى أصبحت مجرد لهب منفرد شارد عن كتلة نار كانت قبل دقائق جسدًا رقيقًا صغيرًا ذا بشرة ناعمة تضحك كل خلاياه عندما تحمله عاليا وتدغدغه أصابعك برقه وحنو...
القصف هو أن مريم ابنتك أصبحت كتلة نار بلا حراك والآن تحترق بهدوء، فالروح غادرت الجسد بينما قلبك ونظرك معلق بتلك النيران التى تخرج من جوف مريم.. وفجأة تنبَّهت لابنك صُهيب ابن الخامسة فناديت اسمه صارخا وتلفتَّ كالمجنون فوجدته مطروحا جثة هامدة فى ممر البناية حيث كان يحاول الهرب ولكن باغتته شظية اخترقت جسده الصغير واقتلعت قلبه، وجارك يقترب منك حاملا قلب الصغير يضعه في حجرك فقد وجده على بعد أمتار من جثة صُهيب!
القصف هو أن تنهار وتبكى بجنون ولكن تتماسك عندما تتذكر رقيّة ابنتك الشابة الجميلة وهي فى عامها الجامعيّ الأول فتتسلق الركام وتتلفت فى كل اتجاه وبين يديك قلب صُهيب...
وسط ضجيج النار والركام يسمع قلبك أنَّات رقية آتية من تحت الأنقاض وتعرفها من كفِّها الرقيق وهذا الخاتم ذو الفص الأزرق الذى طلبته منك فى ذكرى ميلادها السادس عشر...
تحاول جذب يدها فتزيد أناتها الضعيفة وتشعر أنها سوف تتمزق إربا أن حاولت جذبها بقوه فتجلس على الركام تبكى ممسكا بيدها واليد الأخرى تنبش قطع الحديد من حولك حتى تخرج اظافرك من أصابعك علك ترى وجهها وتيسر لها بعض أنفاس الهواء أذ ربما تبقى على قيد الحياة...
تنهار يد الرقية فى يدك وتصمت أنّاتها فتعلم أنها لحقت بمريم وصهيب... !
ينادي عليك جارك أبو أحمد بصوت ملتاع فتلتقط تلك القماشة التى بها قلب صهيب بعد أن وضعتها جانبا لانشغال يديك فى نبش الركام بحثاعن وجه رقية!
صوت جارك يأتي من خلف الدار المطلة على نهر العاصى... تهرع إليه لعل هناك قشّة تتشبث بها أو لعله كابوس سوف تستيقظ منه على صوت جارك حيث تجد مريم وصهيب يلعبان بفناء الدار وهذه رقية سعيدة بممارسة دور الأم تبتسم لهما ثم تناكفهما وتأمرهما كما تفعل زوجتك الجميلة...
ولكن هذا هو أبو أحمد جارك, هو وآخرون يحملون جثة زوجتك التى انتشلوها من النهر.... زوجتك الجميلة الطيبة صاحبة الاسم الغريب غرقت بعد أن باغتها القصف فانهار عليها الجدار ودفعها إلى النهر....
زوجتك بيسان كات تعد الخبز فى الفناء الخلفى للأطفال متشوقة لعودتك بوجه حزين لتضمك بحنان وتواسيك فى فقد أمك وتخبرك أن كل شىء سوف يكون على ما يرام..
بيسان أرادت أن تعتذر منك لأنها لم تصاحبك لوداع حماتها وأمها الثانية رغم أنك طلبت منها البقاء فى البيت خوفا عليها وعلى أطفالك فالطائرات بالسماء كالذئب المسعور!
تنهار تماما وتبكى وتصرخ وتقتلع شعر رأسك وأسنانك تطحن أسنانك وفمك يأكل فمك وجيرانك أبو احمد وأبو باسل يحاولان منعك من أن تؤذى نفسك..
صوت طائرة أخرى يشق السماء ويطغى على رائحة القتل وهول القتل ودناءة القتل .... فحيح آخر يأتى من بعيد ثم لا شىء.... لا شىء... يأتى جارك الطيب العجوز ليلملم تلك الأشلاء المتناثره أشلاءك وأشلاء جيرانك ويحمل القماشة التي تضم قلب صهيب ومازالت تنزف على ظهره هاربا من أزيز آخر يعقبه فحيح مخيف!
هذا هو القصف يا صديقى فى وصف معتوه مقارنة بحقيقته ...الكلمات لا تستطيع وصف القصف يا صديقى وان عكف عليها من احترف صنعة الكلام ابد الدهر ...
بكل تأكيد القصف ليس خبر تقرأه وانت تتناول طعامك على شاشه الجزيره بخلفية شديدة الحمره تحت كلمة عاجل يُعلمك بأن هناك مائه او مائتين قتلوا فى قصف للنظام النصيرى او الروسى او امريكى او فرنسى او انجليزى او اممى ...
لا يذكر الخبر مريم ولا اخيها صهيب ولا اخته رقيه ولا امهم بيسان ولا ... ولا ...ولا ... ولا ...
جميعهم اصبحوا ارقام ... مجرد ارقام ...عشره -عشرون- اريعون - تسعون - مائه - خمسمائه - الف - الفان - عشرة الاف - مائة الف - ويستمر الخبر فى العد ...
حتى الاعداد تضايقنا جدا جدا وتفسد علينا وجبتنا الشهيه حيث تنتظرك تلك الاطباق الساخنه التى تعدها زوجتك رحمه فى مطبخها البسيط الانيق باحد بنايات القاهره او الرياض او الدوحه او الرباط .... او غيرهم من عواصم ومدن أمتنا ...
فتطلب من مريم ابنتك ان تكف عن مناكفة اخيها صهيب وتطلب من رقيه الكبرى ان تترك الريموت وتحول تلك القناه الاخباريه البائسه فمباراة برشلونه والريال تبقى عليها خمس دقائق !

 

تعليق عبر الفيس بوك