مصير الإنتليجانسيا العربية في الغرب

د.يحيى أبو زكريا

 

لا شكّ أنّ الغرب قدمّ خدمات كثيرة للاجئين الفارين من الاستبداد السياسي والظلم الاقتصادي وضياع الفرص في البلاد العربية والإسلامية. وما فتئت الدوائر الغربية المعنية تضع الخطط تلو الخطط لاستيعاب هؤلاء اللاجئين وإعادة دمجهم في المجتمعات الغربية.

وعندما يتمعن الباحث في شؤون هؤلاء اللاجئين أو المهاجرين كما يحلو لكثيرين تسميتهم يجد أنّ هناك خللا كبيرا في استيراتيجية إعادة دمج هؤلاء المهاجرين في الواقع الغربي في مختلف المجالات. وإبقاء الوضع على ماهو عليه دون إعادة النظر في هذه الاستراتيجية جعل الكثير من المهاجرين يعتقدون أنّ السلطات الغربية لا تفكر مطلقاً في طبقة المهاجرين بقدر ما تفكر في ذريتهم التي يعوّل عليها أن تكون غربية ثقافة ولغة ومسلكية، وبالتالي يضمن الاستراتيجيون في الجغرافيا الغربية القضاء على الخلل السكاني بعناصر مستوردة لكن ستكون غربية الهوى والهوية.

وهذا الاعتقاد الذي بدأ يتبلور لدى العديد من المهاجرين مرده إلى ارتفاع نسبة البطالة بين المهاجرين، وعيش الآلاف منهم على المساعدات الاجتماعية التي لها تبعات خطيرة، خصوصا بالنسبة لعوائل كان فيها الأب يسعى وراء قوت يومه من الفجر الى الغروب قبل استقراره في إحدى الدول الغربية.

وإذا قمنا بدراسة موضوعية وتشريحية حول المهاجرين في أوروبا، فيمكن القول إن هؤلاء ينقسمون الى شريحتين – نحن هنا لا نتحدث عن أطفال المهاجرين الذين يدرسون في المدارس الغربية فذلك موضوع آخر بل نتحدث عن البالغين نساءً ورجالا – شريحة مثقفة ومتعلمة، وأخرى أمية أو فلنقل إنّ حظها من التعليم كان قليلاً.

وفي المدارس الأوروبية المخصصة لتعليم اللاجئين والمهاجرين اللغة الأم في هذا البلد أو ذاك، وعندما يشرع الجميع بتعلم اللغة الأوروبية يلتقي الجميع صاحب الدكتوراه وكاتب الطروحات مع الذي لم يعرف معنى معهد تعليمي في بلده.

ويضطر المهاجر المثقف أن يضيّع من خمس إلى سبع سنوات في تعلّم اللغة السويدية أو النرويجية أو الألمانية أو الدانماركية وإعادة تأهيل نفسه كما يريد الغربيون الذين أبتلوا بالشهادات المزورّة أيضًا، وبعدها تبدأ الحرب من أجل الحصول على عمل وقد يكون العمل الذي ينتظر هذا الباحث لا ينسجم مع اختصاصه على الاطلاق، فربّ طبيب مهاجر صار ممرضا، وربّ مهندس صار سائق سيارة، وربّ باحث صار كنّاسا، وهذا لا يعني بتاتاً أن العمل عيب، بل إنّ العمل في كل الفلسفات البشرية مقدّس، لكنّ هذا المهاجر المثقف نظرا لغياب استراتيجية تأهيله فقد الكثير من طاقته وبدل أن يتقدم عموديا يزداد انبطاحاً، وحتى بعد نضاله المرير مع اللغات الغربية وسعيه للحصول على شهادة رسمية في الدولة الأوروبية فإنّ الأمل ضعيف في أن يجد عملا مناسبا وإذا كان محظوظا فإنّه يظل يتنقل من عمل إلى عمل بشكل مؤقت دائما، وبهذا الشكل يصاب هذا المهاجر إمّا بإحباط نفسي ينقله لأولاده الذين سيتذكرون دوما أنّ العواصم الغربية أعطت أباهم الأمن السياسي والاقتصادي لكن لم تعطه الأمن المستقبلي ولم تعطه دوره المطلوب وبسبب مكوثه في البيت كثيرا بسبب البطالة فإنّ هذا يعني اندلاع مشاكل أسرية، وتكفي إطلالة واحدة على إحصاءات الطلاق بين المهاجرين لنعرف خطورة الموقف.

ويبدو أن الدوائر التي تخطط للمهاجرين لا يهمها أن ينجح أصحاب الشعر الأسود في أسواق العمل، ويتحولون إلى دافعي ضرائب يؤثرون على منحنيات السياسة الغربية، فليعش هؤلاء بالمساعدة الاجتماعية وعلى هامش المجتمع، وليتم التركير على الأولاد الذين سيرفعون عدد النسمة الغربية وبدون تكلفة، فالغربي إذا أراد أن ينجب يحسب حسابًا لكل شيء، أما أولاد المسلمين فقد جاءوا جاهزين إلى المجتمعات الغربية، فليصغ الإستراتيجيون الغربيون عقولهم في الاتجاهات التي يريدونها.

صحيح أنّه لا يمكن قولبة أسواق العمل في الغرب على مقاس المهاجرين عالمهم وجاهلهم، لكن يمكن بالتأكيد الحدّ من الضياع الذي يعانيه أغلب المهاجرين الذين أستاءوا من عبارات من قبيل أنّ المهاجر يعيش بفضل الضريبة التي يدفعها الغربيون والعاملون والتجار للسلطات الضريبية.

إنّ في المهاجرين كفاءات ومثقفين كانوا يعتبرون الزبدة والصفوة في بلادهم، ويفترض أن يواصلوا في الغرب وظائفهم الحضارية، ويفترض بالغرب أن يفتح أذرعه لهذه الكفاءات الجاهزة، ولا يعاملهم بنظرة عليّة، إنّ نهضة قوية في أي أمة تحتاج إلى كل الأفكار والإبداعات والخبرات، وشعار غرب متعدد الثقافات والحضارات لا ينبغي أن يكون مجرّد حلم، بل يجب أن يتحوّل إلى واقع. لكن يبدو أن الإستراتيجيات الغربية قد تكشفّت، وأن العرب والمسلمين اكتشفوا أن الإرادات الغربية يهمها بالدرجة الأولى أطفال العرب والمسلمين وصياغتهم في صيرورة واحدة مع منتج الثقافة الغربية، وأن كل الغرب الآيل إلى الشيخوخة في حاجة إلى إحقاق التوازن السكاني، وهنا يكمن سر فتح باب اللجوء السياسي والإنساني.

yahyabouzakaria@gmail.com