هجرة عقول الجامعة الحكومية

 

د. عبدالله باحجاج

شاركتُ يوم الأربعاء الماضي في ندوة "مستقبل التعليم والوظائف في عصر الذكاء الاصطناعي" التي أقامتها جامعة عمان بالتعاون مع جامعة السلطان قابوس، واستضافتها الأخيرة في قاعتها الكبرى، وقد كانت هذه المناسبة فرصة مواتية لزيارة بعض الأصدقاء الأستاذة الذين نرتبط معهم بعمق تاريخي في الصداقات وفي الزمالات الإعلامية والدراسية السابقة.. كانوا إذا زاروا مسقط رأسنا صلالة يحرصون على الالتقاء بنا، وكنا نتبادل أحاديث الزمالة، وهواجس المستقبل، وهموم وتطلعات الوطن.

وبمجرد أن تلقيت دعوة المشاركة، شدني الشوق إلى اللقاء بهم مجددًا، خاصة وأن لقاءاتنا معهم قد انقطعت منذ عامين، طرقنا مكاتبهم في الجامعة، غير أننا لم نر سوى آثارهم، وتحديدا في أقسام الإعلام والتربية والعلوم.. دون كياناتهم البشرية، وكان إدراكنا ببصماتهم المهنية والفكرية طاغياً على الإحساس.. ولم نعلم في حينها، أن وراء طغيان الأثر على الإحساس، غيابهم الأبدي عن المكان، ربما يكون شأن كل من يترك وراءه ما يخلد وجوده بعد رحيله، سواء ظلت الأجساد فوق السطح أم تحته، ولم نكن نظن في حينها، أنهم قد قدموا استقالاتهم فرادى وبصورة طواعية قبل استحقاق تقاعدهم القانوني، لماذا؟ كان هذا التساؤل، أول ردة فعل ذهنية على خبر الاستقالات، ثم أعقبها سيلٌ من التساؤلات حول مصائرهم بعد التقاعد، بمعنى، هل هجروا المهنة، وانشغلوا بمصالحهم الاقتصادية أم التحقوا بمؤسسات أكاديمية خاصة؟ وهل التحقوا بالمؤسسات الأكاديمية داخل الوطن أم خارجها؟

بحثنا عن التفاصيل، فوجدنا، أن الحالات التي بحثنا عنها، قد غادرت من الباب المفتوح، وفي نفسياتها آلام المغادرة، وحسرات تجاهلها، فقد كانت تتوقع على الأقل أن تحظى بشرف الوداع من لدن رئيس الجامعة، وهذا لم يحدث، وكانت تتوقع رغم قرارها الاختياري المغادرة أن يحدث محاولة أثنائها عنها، وهذا لم يحدث، ربما لو فتح باب النقاش معها، لكشفت أسباب مُغادرتها، أو على الأقل تم الاستفادة من مرئياتها التي يمكن أن تجعل من الجامعة عنصر جذب دائم وحل إشكالية الأسباب الطاردة للكفاءات والمخرجات العلمية. فمعظم المخرجات العلمية، تفضل التوجه للشركات لمُرتباتها المرتفعة، ومرونة وديناميكة ترقياتها، قياسا بالوضع الحالي في الجامعة، وقد تعرفنا من الميدان على مجموعة قضايا قد أصبحت تشكل عوامل طاردة وليست جذابة للعمل أو الاستمرار فيه، منها، أسلوب الترقيات، وتأخرها الطويل، والإشكالية التي دخلتها بسبب الأزمة المالية، فقد قيل لنا إن هناك ترقيات متوقفة منذ عدة سنوات، ولا يمكننا تصور استحقاق الترقية للأكاديميين قياسًا بما هو سائد في الخدمة المدنية، فالاستحقاق في الحقل الأكاديمي يرتبط بتاريخ الإنجاز العلمي، والإشكالية هنا، أنه عندما يأتي هذا الاستحقاق العلمي بعد مروره الزمني الطويل، والمبذول فيه جهد ذهني وعضلي معتبرين.. لا يقابل استحقاق الترقية، فكيف سيقدم الأكاديمي على البحث العلمي؟ وكيف ينبغي أن ننظر لمستقبل البحث العلمي في الجامعة؟

لكن أين ذهبت عقول الجامعة؟ بعضها تفرغت لمصالحها الاقتصادية الخاصة، وأخرى التحقت بمؤسسات أكاديمية وشركات خاصة داخل البلاد، بينما غادرت بعضها لدول مجاورة التي فرشت لها الورود والزهور، ومنحتها كل عوامل الجذب والاستقطاب من أجل الاحتواء.. فهذه عقول جاهزة "علميا وعمليا" وأصبحت لديها خبرات تراكمية لا تقدر بثمن، وهذه كفاءات قادرة على قيادة وصناعة النجاح، فبدلاً من الاستمرار في الاستفادة منها، حملناها على المغادرة لاستفادة الآخرين منها، تبدو المسألة هنا، غير مقبولة تمامًا، ولسنا مع من يردد مقولة إن الكفاءات ليس لها وطن، بمعنى التسليم بمغادرتها، وهذا غير صحيح تمامًا، وبالتالي ينبغي تصويب هذه المقولة، عبر القول أن عالمية هذه الكفاءات من منظور أدائها ونتائجه الذي ينبغي أن يعم الإنسانية بصرف النظر عن جنسيتها وإيديولوجيتها وألوانها السياسية والبشرية، لكن هذا البعد الدولي لهذه الكفاءات ينبغي أن ينطلق من وطن الكفاءات، لا تعويم الأوطان، ووطنها هو الأولى بها، فهو من أنفق عليها، وهو من تولاها بالرعاية، ابتداء وانتهاءً. وحتى في إطار الجهد الإنساني المشترك، ينبغي أن ينطلق من الوطنية ذاتها، ليعم خيره على البشرية سواء على الصعيد الإقليمي أو العالمي، مثال، اللجنة الخليجية المشتركة التي شكلت لمدى استفادة دول الخليج الست من الإمكانية النووية للأغراض السلمية، والذي كان البروفيسور أحمد ظفار الرواس أحد أعضائها من جامعة السلطان قابوس، ما عدا ذلك، فإنَّ وراء مثل هذه الهجرة استنزاف للعقول الوطنية، وإتاحة الفرصة لدول منافسة لاستقطابها، والاستفادة منها.

وقد استوقفنا أثناء زيارتنا للجامعة كذلك، قضية البيروقراطية الإدارية وتداعياتها على نفسيات الرعيل المؤسس للجامعة عامة وللكفاءات العلمية خاصة، ومن مفارقات حسن الصدف، أن تعرفنا على قصة تمثل نموذجا لقضية البيروقراطية الهدامة للمعنويات، والمعرقلة للكفاءات التي تمس جوهر جدار الإخلاص والوفاء المهني والمؤسساتي، فقد تعرض بروفيسور عماني بارز في الجامعة، التحق بالجامعة عام 1988 أي بعد سنتين من إنشائها فقط، لمعاملة بيروقراطية آلمته كثيرا، فقد جاءه خطاب مكتوب إلى مكتبه فيه العبارة التالية "يؤسفنا إبلاغكم بموعد تقاعدكم القانوني بتاريخ 10/ 11/ 2019" نزل عليه هذا الخبر بأسلوبه البيروقراطي كالزلزال، فمكانته العلمية، ودوره العلمي والأكاديمي، وجهوده الكبيرة التي خدم فيها بلاده داخليا وخارجيا، كان الأجدار أن تكون طريقة التعامل معه أكثر رقياً، وأكثر حضارة، علماً بأنه يحق له قانونيا التمديد خمس سنوات أخرى إذا ما رغب في ذلك، تصوروا البعد النفسي للبروفيسور العماني، وهو يدخل مكتبه صباحًا، ويتفاجأ بخطاب مكتوب عليه تلك العبارة؟ وهذا يكشف لنا من بعيد عن وجود إشكالية إدارية بنيوية، تفصح عنها ظاهرة هجرة الكفاءات من الجامعة من أبوابها المفتوحة، وطريقة المعاملة مع البروفيسور الذي تخرج على يديه الآلاف من الفيزيائيين .. فكيف سيكون نفسياتهم عندما يعلمون بمعاملة مؤطرهم العلمي؟ بل كيف ستكون نفسيات وأداء الجيل الجديد من الأكاديميين "الشباب" وهم يشهدون معاملة الجيل الأول الذي كان الكثير منهم أساتذتهم؟

هل تحتاج جامعتنا الحكومية الوحيدة لإصلاحات داخلية؟ تساؤل نطرحه على خلفية تلكم الظواهر، وعلى خلفية أن استمرار فاعلية وفعالية هذا الصرح العلمي، يحتم بين كل فينة وأخرى الإصلاح، لضمان الجودة، والمنافسة، وتلكم الملاحظات لن تقلل أبدًا من أهمية ونتائج هذا الصرح العلمي الوطني، لكننا نتحدث عن ضرورات الإصلاح والتحديث في الفاعلين والأطر والأنظمة، وهذه ضرورة حتمية، والدعوة لها تكتسب مشروعيتها الوطنية في ضوء مجموعة تحديات داخلية وخارجية.