زاهر لم يدفن بندقيته

 

علي بن كفيتان بيت سعيد

قد يظن البعض أن زاهرا غادر ولن يعود لكنه رجع هذه المرة من سفراته ومُغامراته التي لا تنتهي لقد بدا لي كرجل يحمل كل هموم الدنيا، يوحي لك بأنه ذلك الثائر القادم من غبار المعارك يحمل بندقيته ويجلس ضاحكاً بين الرفاق، ظل هذا الاسم ملازماً لذاكرة الكثيرين ممن رافقوه في رحلات النضال التي لا تنتهي بتغييب الجسد، واكتشفوا جميعاً أنَّه لم يدفن بندقيته بل علقها على جذع شجرة علعلان.

كم هو الوقت كفيل بأن يجمع ويفرق، وكم هي الدنيا صغيرة ما دمنا أحياء نمشي في مناكبها مسيرون غير مخيرون في كثير من الأحيان، وكم هو القدر كفيل بترتيب المواعيد التي نتمناها ولم نكن نتوقعها. كانت مجرد لحظات توقف كلينا عن الحركة لثواني في ذلك الرواق بالقرب من المصعد، وجهها الملائكي لا زال كما هو لقد استعادته الذاكرة بشكل يفوق قوة كل حواسيب الدنيا وعلى أثر هذا الحادث أطلق القلب صفارات الإنذار وتدفقت كميات غزيرة من الدماء إلى كامل الجسد الواقف في الممر. ترددت خطواتها وأظنها تشعر بشيء مما حل بي استعدتُ رباطة جأشي ومددت الخطى إلى القاعة تجنباً لأي عارض غير متوقع فجموع المثقفين تحيط بنا والكل يتهادى للقاعة.

أجلستني الصدفة المحضة مجدداً في الصف الثاني فأنا ضيف شرف أتى على عجل بينما كان الجميع يتمترسون في مواقعهم بكل ثقة لا زال التوتر يأخذ مكانه في نفسي وتسارعت آلاف بل ملايين التساؤلات إلى مخيلتي التي استعادت كل الصور الجميلة بينما هي جالسة في نفس الصف من الجانب الآخر بإمكان كل منّا أن يرمق الآخر بنظرات لكن الأبصار لم تتقاطع أبداً. لا زالت كما أعرفها منذ التقينا أول مرة جميلة ومتألقة. الحاضرون منغمسون في ذلك المساء في الحديث عن شاعر مهجري جاب كل العواصم والأرصفة والمقاهي بكلماته كان جالساً أمامي معتمراً قبعة عسكرية تعود إلى أيام الثورات اليتيمة.    

ولتؤكد لي أنها لا زالت تلك الطفلة الشقية أحتبت على الكرسي وصارت تعبث بحاجياتها ولا أظنها تصغي لما يحدث حولها إلا عندما يصفق الحاضرون لانتهاء أحد المتحدثين من إلقاء ورقته. في هذه الأثناء أسرجت مخيلتي إلى الماضي حيث كان الجميع يغادر قاعة الدرس بينما تبقى هي في الخلف تنتظرني أملت نفسي بأن يحدث ذلك مجدداً هذه الليلة.

كان حديث القاعة شيقاً ومؤثراً حيث تقاطرت دموع الشاعر المهاجر على خديه عدة مرات بينما هو يكفكفها بقطع من المحارم الورقية التي تدسها كريمته الجالسة إلى يمينه كنا نستمع لقراءات جميلة عن الموهبة الشعرية لهذا الشاعر الثائر وأنا أحبس دموعي خلفه مباشرة كي لا أظهر بأنني متذوق شعري مفرط في التشاؤم. قفل الحوار من على طاولة المتحدثين وقدمت الهدايا الرمزية للمشاركين والتقطت الصور التذكارية بينما هي لا زالت قابعة على مقعدها مما يوحي بموعد جديد بيننا. لملمت أغراضها وقلبي يترجاها أن تظل جالسة لكنها غادرت إلى آخر القاعة وظلت واقفة هناك تظاهرت أنا بأنني أغادر وفي الممر الأخير أبطأت السير واقتربت منها وتوقفت ساكناً كتلميذ ينتظر أستاذه تقدمت هي بثبات وشاركت في التقاط صورة تذكارية للشاعر المحتفى به مع المشاركين في الندوة، في حينها علمت أنني كنت رجلا أنانيا إلى درجة لا تطاق.

تبخرت كل بقايا كرامتي بين لحظ عينيها البراقتين وخدها فلم تكلف نفسها حتى الالتفات لذلك الكائن المتكدس في الطريق رغم أن علامات الارتباك كانت بادية من حركة أصابعها المرتجفة، بعدما ذهب كلينا إلى وجهته لا شك أنها ربحت المواجهة الجديدة القديمة، ورغم الخسارة التي منيت بها فأنا سعيد لأنني منحتها الفرصة للانتقام. 

تلك العذراء العنيدة كانت قصيدة الأحلام المفقودة منذ عقود وكتب لها أن تحلق مجدداً في سماء جمعية الأدباء والكتاب بمرتفعات المطار في عاصمتنا الجميلة مسقط ورغم وله الجميع فإنها حضرت للاحتفال مع رجل واحد فقط هو الشاعر المهاجر زاهر الغافري.  

العلعلان: شجرة معمرة تنمو في الجبل الأخضر ...

alikafetan@gmail.com