موازين القوى في العالم الجديد

 

 

حاتم الطائي

العالم يقترب من حرب باردة جديدة تستهدف إعادة توزيع الأدوار وترسيم مراكز القوى إقليميا ودوليا

التغيرات في الخارجية والاستخبارات المركزية تدعم "أمريكا الجديدة" القائمة على الشعبوية وتنامي نفوذ اليمين المتطرف

عصر التنبؤات السياسية والاجتماعية ذهب أدراج الرياح.. وصراعات العقد القادم تتشكل في رحم التفاعلات الآنية

 

تحركات جديدة وتكتيكات غير تقليدية يشهدها العالم منذ فترة ليست بالقليلة، لكن حُمَّى هذه التحركات باتت أقرب إلى ذروتها، وتأثيراتها على منطقتنا دنت بصورة أسرع مما نتصوَّر، ويبدو أن المسرح السياسي الدولي سيشهد تغيرا في الأدوار المقررة لكل لاعب، لكن الأدوار الجديدة -القديمة فعليا- يعتريها بعض التناقضات.

وأبرز اختلافات هذه الأدوار ذلك التصدُّع الذي أصاب "العولمة" كنظام قادته وروَّجت له الولايات المتحدة من قبل، بينما اليوم تُجَاهد لتفكيكه عبر عمليات انسحاب منهجيَّة من تجذُّراتها -سواءً "إيبك" أو "نافتا"، ومن قبل "اتفاقية المناخ"- والدفاع عن الحمائية، بالتزامن مع صعود الشعبوية وتغلغل اليمين المتطرف في صناعة القرار العالمي، وهو توجُّه يُطلق إشارات خضراء لإفساح المجال أمام بروز زعامات لم يألفها العالم منذ الحقبة الموسولينية، ليعود من جديد المفهوم الكلاسيكي للزعامة الكاريزمية، توازيا مع مَيْل دولي للتكيُّف أكثر مع ما تنتجه حقائق القوة من وقائع، وللتعايش مع ما تفرزه من نتائج.

الداخل الأمريكي المهتز والمتذبذب فوق فوهات الشعبوية، والنفوذ الروسي المتمدد في عدة مناطق بالعالم، وشطحات رئيس كوريا الشمالية قرب زره النووي، وبريطانيا الواقفة على عتبات الانعتاق غير المُكتمل عن "أوروبا الأم"، وأردوغان المتناقِض بطموحات استعادة المجد العُثماني القديم، وفرنسا بوجه سياستها الشابة الجديدة، وألمانيا بدورها الضبابي رغم إمكانات القوة الاقتصادية الأولى.. جميع ذلك يرسم إحداثيات مَسَارح جديدة لمعارك تُخاض بالوكالة؛ سواء ما انعكس من توابعها على الشرق الأوسط، أو حتى مناطق الصراع الأخرى، في خضم حرب باردة جديدة، هدفها هذه المرة إعادة توزيع المهام وترسيم مراكز القوى.

ملامح عدَّة لهذه المرحلة، أخذت تَبِيْن من سياقات الأحداث الأخيرة، بتشابكاتها وتوقيتاتها العاكسة لانحراف حاد في مسارات النظام العالمي.

 

(1)

تنحية وزير الخارجية الأمريكي ريكس تيلرسون، وتعيين مايك بومبيو مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية بديلا عنه، لم تكن بالأمر المفاجئ، خصوصاً في هذا التوقيت؛ فعلى الرغم من أن تعيين تيرلسون أساسًا كان انعكاسًا لصراع الرئيس دونالد ترامب مع مختلف المؤسسات الأمريكية الحاكمة وقتئذ عند بداية توليه مقاليد الحكم في البيت الأبيض، وبدء خطوات تشكيل إدارته الجديدة؛ وتعزيز جبهته اليمينية، وبسط رؤيته، وإصراره على ترجيح وجهة نظره الشخصية في إدارة ملفات السياسة الخارجية. فمنذ حملته الانتخابية كان جليًا للغاية عدم انسجام ترامب مع سياسات حزبه الجمهوري، فالرجل لم يعتبر نفسه مُلزمًا بتوجهات أيديولوجية بعينها، ولم يقبل بأي قواعد للسلوك السياسي الحزبي، لذا فلما اشتد تمسك تيلرسون مؤخرًا بتوجهاته المتعارضة مع ترامب، وتحديدًا في ملفات بحساسية التصعيد مع الروس ورفض المفاوضات مع كوريا الشمالية دون ضمانات، ومعارضة إفشال الاتفاق النووي مع إيران، وتبنيه حل النزاعات الدولية -خصوصاً في الشرق الأوسط- بالحوار، لم يكن أمام ترامب سوى إخماد وهج معارضة تيلرسون، وإنهاء مرحلة من الخلاف والتوتر بلغت حد التراشق اللفظي بينهما خلف الكواليس، فقرر ترامب حرق مسافات زمنية أسرع لتأصيل رؤيته للدبلوماسية الخارجية كمحدِّد رئيسي في لعبة تحديد مراكز القوى، وهو ما عكسه أيضا تعيين مدير المخابرات الأمريكية وزيرًا للخارجية، الخطوة التي تخدم التوجه المتهور لترامب؛ فبومبيو معروف بعدائه الشديد للإسلام والمسلمين، وعنصريته وأفكاره المتطرفة المستمدة من حزب الشاي اليميني المتطرف، وكلها عوامل تخدم مصالح "أمريكا الجديدة"، والأمر نفسه مع تصعيد جينا هاسبيل لتكون مديرة للمخابرات، وهي المعروفة بتاريخ مليء بالجرائم ضد الإنسانية في السجون السرية وتعذيب المعتقلين.

كل هذا مع الوضع في الاعتبار الأسس التي تقوم عليها الإستراتيجية الأمريكية تجاه المنطقة العربية تحديدًا، والقائمة على فكرة "إدارة الأزمة" عِوَضا عن إيجاد حلول نهائية لها؛ فالإدارة الأمريكية لا تطرح رؤى أو حلولا لإحداث انفراجة في هذا الملف أو تقدما بآخر، بقدر ما يهمها بقاء بؤر التوتر والحروب مشتعلة كما هي، خدمة لمصالحها العليا التي جُل ما يعنيها سياسيًّا: الحفاظ على أمن إسرائل وضمان تفوقها العسكري، واقتصاديًّا: النفط الرخيص واستنزاف الموارد عبر صفقات تسليح مليارية تنعش الطلب على صناعة السلاح الأمريكية.

إذن، فهذه القرارات السريعة المتعلِّقة بحقائب وزارية على قدر من الحساسية في توقيت زمني مُتتالٍ، تقول إن ترامب لن يقبل بحال أن تمضي فترة رئاسته بصورة لا تخلو من القرارات المصيرية غير المسبوقة. وبالتالي، فإن ركود بعض الملفات، أو عجز إدارته عن إحراز تقدم إيجابي بها، يدفعه بين الحين والآخر لقلب الطاولة، واتخاذ قرارات جريئة، حتى وإن كانت لا تنسجم مع تقاليد مؤسسات الحكم الأمريكية.. وهي نقطة تحوُّل بارزة جدًّا، ستنعكس سلباً بكل تأكيد على الدور الأمريكي مستقبلاً.

 

(2)

القمة المرتقبة بين رئيسي أمريكا وكوريا الشمالية، محطة مهمة أخرى على المسار الدولي الجديد؛ قمة لا تحتكم لأي شيء، رئيس شعبوي يعبر عن عنصريته بطرق شتى، وآخر عدواني متهور على استعداد لإطلاق قنبلة نووية وهو يبتسم؛ فالولايات المتحدة وباعتبارها "قوة عظمى"، وكوريا الشمالية الدولة النووية الأخطر بالعالم، لا تتمتعان بمصداقية تكفي للتنبؤ بنتائج لقاء ترامب وكيم، فالأخير لن يتخلى عن ذخيرته النووية ما لم يأمن جانب واشنطن، لاسيما مع إدراكه الكامل بتدخلات واشنطن في عدة دول للإطاحة بأنظمة حُكمها، الأمر الذي يجعل مشهد القمة المحتملة أكثر تعقيدًا. وفي المقابل يذهب ترامب للقاء كيم وفي جعبته موجزًا عن تاريخ بيونج يانج المليء بعدم الالتزام بأي اتفاقات دولية، وإذا ما أضيف ذلك إلى الرفض المتوقع سلفًا من الرئيس الكوري لمجرد أي فكرة لدى واشنطن بتفتيش المواقع النووية المعلنة والسرية (كما اشتُرط في اتفاق إيران)، وتباين الرؤى حول قواعد الاشتباك، فإن الفرضيات الأقرب للواقع تنسف فكرة أن يتوصل الطرفان لاتفاق، سوى اللهم تخفيف الحرب الكلامية المستعرة بينهما، أو أن يطرح الاثنان قرارا أكثر مفاجأةً من قرار عقد القمة ذاتها!

 

(3)

التصعيد بين روسيا وبريطانيا على خلفية تسميم العميل المزدوج السابق الجنرال الروسي سيرجي سكريبال وابنته باستخدام غاز أعصاب على الأراضي البريطانية، هو الآخر أحد تجليات صراع إنتاج حقائق جديدة للقوة على الأرض. قوة تستبق توزيع الحصص فوق قمة نظام مُتعدد الأقطاب لا تنفرد واشنطن بزعامته؛ إذ إن دوافع الاستهداف الروسي -إن ثبُتت- لن تكون بمثابة مجرد رسالة من موسكو على إمكانها معاقبة الخونة بأي مكان كانوا، كما لم يكن الرد البريطاني مجرد رسالة على أنها ليست مسرحاً مستباحاً لتصفية الحسابات مع عملاء أسدوا خدمات تجسسية لصالح بريطانيا.

فروسيا كدولة مخابرات من الطراز الأول، تساندها مجموعة من رؤوس الأموال التي تشكل اليد الطولى للكرملين حول العالم، تقف دائمًا ضد كل المبادئ السياسية للغرب.. ذلك الغرب الذي كان بوتين شاهدَ عيان على مُحاولاته تفتيت الاتحاد السوفييتي؛ إذ كان حينها أحد ضباط المخابرات السوفييتية. وفي المقابل، تصعِّد بريطانيا الحادثة الأخيرة على أراضيها، باعتبارها اعتداءً على دولة رئيسية في حلف الناتو، وليس حادثاً فردياً غريباً، وهو مُعطى مثير يزيد اللعبة سخونة، وبلا شك ستكون الخسائر مُكلفة وأكثر وضوحًا وأشد إيلامًا.

 

(4)

أجواء التوتر، والتفاهمات الهشة بين اللاعبين الرئيسيين في الميدان السوري الملتهب، تصوغ هي الأخرى أحد قوانين اللعبة الجديدة؛ فالوضع الميداني يشهد أشد حالات التعقيد، التي لم تعد تقتصر على الحضور العسكري لقوات من دول عديدة هي: الولايات المتحدة، وروسيا، وإيران، وتركيا، بل وتصفية أنشطة ميليشيات مسلحة من مختلف الجنسيات. ورغم حرص الأطراف الفاعلة على الأرض هناك على تلافي أي احتكاك بين القوات برًّا أو جوًّا، إلا أن ريف دير الزور وعفرين على وجه الخصوص شاهدان على تغيُّر في قواعد الاشتباك.

المعطيات مفهومة فيما يخص دور روسيا وإيران بدعمهما القوي للرئيس السوري بشار الأسد، وأمريكا في الجانب المقابل بمعارضتها لبقاء الأسد في السلطة، مدعومة بموقف أوروبي أيضا. في حين أن الموقف التركي متناقض بدرجة كبيرة، ويظهر تحولا في سياقات الصراع داخل الأراضي السورية، فأنقرة التي كانت تقف بالأمس للرئيس السوري ونظامه والقوات الموالية له مؤشرةً باتهامهم بقتل مدنيين، تجد نفسها اليوم أمام ذات الاتهامات بل وأسوأ في عفرين؛ بإسقاط عشرات القتلى من المدنيين ممن تسميهم "الإرهابيين الأكراد"، وبعمليات مدعومة جويًّا وبقصف مدفعي عنيف وغارات متواصلة تدك المنازل والأحياء بهذه البلدة الحدودية، تنافي ما أعلنته في البداية عن خطط لـ"هُجوم عابر" على مدينة عفرين، الواقعة في وسط المنطقة التي تحمل الاسم نفسه.

الفارق هنا قد يزول، إذا ما قُرئ في سياق رغبة أردوغان في قطع أي طريق أمام إقامة دولة مستقلة للأكراد، مهما تكلَّف الأمر من أثمان، وعلى حساب أي شيء حتى لو كانت القيم الإنسانية التي انبرى للدفاع عنها ذات يوم، وبما يضمن أيضًا تمكين سلطاته، وحتى لا يكون للأكراد دولة تمثل "مسمار جحا" للإدارة الأمريكية ودولة الاحتلال الإسرائيلي وحلفائهما في المنطقة، سيما وأن مجرد الفكرة بإنشاء دولة منفصلة للأكراد لاقت دعما وترحيبا من واشنطن وتل أبيب. وفي ظل إصرار الأكراد (الذين يمثلون نسبة أقل من 20% من إجمالي السكان الأتراك) على الانفصال، وإصرار تركيا على عدم السماح بتشكيل كيان كردي مُتاخم لحدودها الجنوبية، سواء كان في العراق أو سوريا، ولكي لا تتحول تلك الكيانات لقاعدة متقدمة لإسرائيل، أو باقي أجهزة المخابرات العالمية، فإن تركيا تضع أمام عينيها خيارات عديدة لا يُمكن التكهن بأبعادها على الأقل حاليًا.

 

(5)

الخلاصة إذن.. وعلى الرغم من أنَّ المعطيات تُثبت أنَّ عصر التنبؤات السياسية والاجتماعية قد ذهب أدراج الرياح، إلا أنَّ الكثيرَ من المؤشرات يدلُّ على أن ظاهرة التبجح السياسي ستأخذ أبعادا أكثر حدة، وربما تتشكل تفاعلات وصراعات العقد القادم على أساسها، وهو ما يفرض على الدول العربية اليوم أن تكون أكثر واقعية في التعامل مع المستجدات، وأن تتعلم من الدروس القاسية في كثيرٍ من الدول التي باتت مسرحًا لصراعات دولية على حسابات تفتيت الأمن العربي، وإلحاق الدمار بالدول المركزية في المنطقة؛ سواءً غزو العراقي وإشعال لبنان من قبل، وتدمير سوريا واليمن وليبيا، وإرباك مصر اليوم.. كل هذه الخطط التدميرية تتم عبر آلية واضحة تتمثل في إنهاك هذه الدول في أتون صراعات داخلية تستنزف مواردها ضمن سلسال الإرهاب الغاشم وعمليات الدمار التي تُدار من وراء البحار، في مقابل السماح لمكونات إقليمية غير عربية بالتمدد على مساحات واسعة، وبث العداء والدفع نحو حروب بالوكالة، خصوصاً وأنَّ غياب تكتُّل عربي مُلم بالقواعد الجديدة للعبة، يُضعف أيَّ مُحاولة لإعادة الاتزان في كفَّتي السَّلام والمصالح في العالم أجمع، والشرق الأوسط على وجه الخصوص.

... إنَّ مرحلة التحول في موازين القوى العالمية الحالية تستوجب استثمارًا سياسيًّا عربيًّا بحنكة واقتدار، واستغلال هذا الصراع بين القوى العظمى للصالح العربي؛ فسياسة القطب الواحد للولايات المتحدة ألحقت الكثير من الدمار بالوطن العربي، وفجرت كوارث سياسية واقتصادية، يُفترض اليوم أن نكون تعلمنا منها الكثير والكثير.