الأم الرافضة والابنة الثائرة في "وجوه" وليد أبو بكر

أمين دراوشة – ناقد وأديب فلسطيني – رام الله


 لم يحب شريف الزوري أحدا في حياته، كما أحب نبيلة ورام الله، فقد قضى سنوات من عمره يبحث عن طريق توصله إلى رام الله، ونجح أخيرا في تحقيق بعض أحلامه، فتزوج ابنة المختار وأنجب منها ابنته نبيلة، التي حظيت بالرعاية والاهتمام الكبير منه. يقول معبرا عن حبه غير المحدود لرام الله وابنته: "ازدادا حبّي لبطن الهوى، ولرام الله، وأنا أرى ابنتي تتفتح على هوائها النقي مثل وردة"
(ص 17).
وقدم لها كل ما تشتهي وترغب، فبعد عمله في الحكومة قبل عام 1967م، تحسن وضعه المادي كثيرا، وأصبح يذهب إلى المحلات المختلفة ويختار ما يشاء دون أن يدفع، لذلك يقول: "فامتلأت خزانتي وخزانة ابنتي بالملابس" (ص 23).
وكانت الزوجة تعبر عن رفضها لكل ما يجلبه، لأنها رافضة عمله بالمطلق، فعاقبها كما يظن، بحرمانها من النعمة التي يتمتع بها!
هذه الأم استطاعت التأثير على الابنة، التي كبرت وبدأت تعي خطورة ما يقوم به والدها من أعمال لا تخدم قضية الوطن. واصطدمت بحادثة عكّرت الأجواء بينها وبين والدها، وأحدثت فجوة لن ينجح في ردمها: لقد اعتقل والد أحدى صديقاتها، وكانت نبيلة تعرفه شخصيا، وعذّبه.
هنا يشعر شريف بالحيرة، ويتساءل عن السبب الذي يجعل الناس يكرهونه، حتى أقرب الناس إليه، ولكنه يفشل في إيجاد التفسير، ويقول: "يحز في قلبي وجه نبيلة الشرس، ووجه أمها، الذي عرف الغضب أخيرا" (ص18).
تفتح ذهن نبيلة، وبدأت تفهم معنى النضال والمقاومة على يد المدرس المقاوم جميل الحيّاني وزملائه. وعندما يكتشف شريف علاقة ابنته مع الشباب والشابات ومن بينهم جميل، يغضب ويسألها: من أين تعرفينه؟ فتجيبه بكل عنفوان: "هل يوجد أحد في رام الله لا يعرفه؟" (ص53).
وتضيف: جميل محبوب من جميع الناس، فهو يساعد الجميع دون مقابل، ويحبّ وطنه دون حدود. وسيحقق الحلم التي عجزت الجيوش على تحقيقه، و"الناس قادرون على حماية أنفسهم لو توفر لهم السلاح" (ص60).
وجميل مثل جميع أمثاله كان وفيا ومخلصا في علاقته بمن حوله، لذا لا يشعر بالخوف، أمام "من يستفيد من بقاء الناس في المذلّة، وتحت رحمة العدو، ولذلك تصبح المقاومة مشروعة" (ص60) .
ويهتاج شريف ويخرج عن طوره ويصرخ قائلا: "من يقاوم من؟ إنهم بين المطرقة والسندان، وما يفعلونه مجرد تخريب، يجب أن يمنع بالقوة" (ص60).
فما كان من شريف الزوري إلا أن اعتقل جميل ورفاقه وتفنن في تعذيبهم ومحاولة إهانتهم. وقال لابنته بلهجة قاطعة: سيظل السجن مشرعا! لتسأله بتهكم: ولكن إلى متى يبقى هذا الحال؟
ودفع ثمنا باهظا لذلك، إذ صار يرى الكره في عيون حبيبته نبيلة، وهو يعبر عن ذلك قائلا: "كانت الكراهية في عيني نبيلة قاتلة" (ص58).
وأصبحت نبيلة ترفض أن يعاملها الناس بكونها ابنة شريف الزوري، وتطالبهم بأن يعاملوها لشخصها "لا من خلال والدها الذي لم تختره" (ص40). ثمّ قامت في تحد واضح لوالدها، بزيارة والد صديقتها الذي اعتقل وعذب من قبله.
ويتذكّر شريف ابنته وهي صغيرة، وكيف كانت تكبر أمامه ويتحدث عن ذلك، قائلا: "وأكبر بها وأنا أحسّ بأنها السعادة الوحيدة لي داخل المنزل. كانت تركض إليّ عندما أدخل، وتبحث عما حملته لها.  وتقبلني، فأحسّ بأنني أمتلك العالم" (ص40) .
كل هذا لم يدم، فنبيلة تغيرت و"بدأت تغيب عني بحجة الدراسة، ثم بدأت تطرح الأسئلة التي أكرهها"
 (ص40).
ثم انقطعت العلاقة بينهما إلى الأبد، وهو يقول بألم: "نبيلة كانت حبيّ، وكانت عذابي، كلّ شيء عالجته، إلا ما جاء منها" (ص41).
كان فيها الكثير من صفات جدها، وخصوصا العناد، وعندما حاول في أحد المرات إعادة علاقته بابنته، بأن عرض عليها توصيلها إلى المدرسة، رفضت بشدّة، فلجأ إلى أمها لتحاول إقناعها، فأجابته: "إنها تخجل من أن تراها زميلاتها معك" (ص47).
وبعد أن استطاعت إسرائيل احتلال ما تبقى من فلسطين في العام 1967م، اختفت نبيلة، وبعد فترة ليست طويلة، شرعت الثورة الفلسطينية القيام بعمليات فدائية ناجحة، أذاقت العدو الخوف والألم، فلم يجد الحاكم العسكري بدّا من استخدام شريف، مع تركيزه على تعنيفه ومحاولة تشويه صورة ابنته التي لم يعرف حبه طريقا إلا إليها. فكان يحاول استلابه حتى آخر قطرة دم، وهو يخبره بأنها تعيش مع المخرب نديم الكفراوي في الأردن، وأنه إذا لم يحضرها إلى إسرائيل فسيناله العار، أو عليه على الأقل إجبارها بالتخلي عن الأعمال التخريبية، وإلا ناله العقاب.
يسافر شريف في محاولة لإعادة ابنته. ويقبض عليه رفاق جميل هناك، فيبقيه معتقلا لشهر، يقوم بعمل الشاي والقهوة عند الذين عذبهم من قبل، ولا ينسى جميل تذكير شريف بذلك عبر إعطائه فلقة بالعصا من قبل رفاقه. ومن ثم يطلق سراحه.
يرفض شريف المغادرة قبل رؤية ابنته، ويخبره جميل أنها لا تريد رؤيته، وعندما يصمم على ذلك، يعطيه جميل عنوان سكنها.
يذهب أملا في أن يراها، لكن الحراس يصدونه عن الباب، فيصرخ طالبا رؤيتها. تخرج من بيتها، وتدنو منه، وتخاطبه قائلة: "نعم، ماذا تريد؟" (ص161).
يرد قائلا: أنا والدك، وبحاجة لك.
فتقول بصوت بارد دون مشاعر: "ليس لي والد" (ص161).
 وعندها يغضب، قائلا: أنا والدك ومن حقي كأب..
فتقول: "هذا لو كنت أبا" (ص162).
ويأخذ يستعطفها، ويقول لها إنك لا تستطيعين أن تنكري أني والدك، فترد بحدّة: "حين تكون عاري، يكون من حقي ألا يكون لي أب، حين تجيء من أجل أن تمنعني من أداء واجبي، عليك أن تحمد الله، لأنك بقيت حيا" (ص162).
وتضيف: لن أشكر رفاقي على ذلك، لأنك لا تهمني، بل كنت خائفة عليهم من غدرك وخيانتك.
وحين أخبرها عن مدى خوفه، لأن كل الوجوه هنا تترصده، قالت: "هل تريد أن تحصد عير ما زرعت؟" (ص 162).
ويرحل ذليلا يهذي، يمشي في شارع مضيء يوصل إلى شارع آخر مظلم، يختفي فيه، قائلا لنفسه: "عليّ أن أبحث عن زاوية معتمة أختفي فيها" (ص168).
واستمرت نبيلة ورفاقها في النضال، الذي أوجع الاحتلال وعملاءه، وتوّج نضالهم باندلاع الانتفاضة الفلسطينية من رحم المقاومة.

 

تعليق عبر الفيس بوك