فخ الظنون

ريمة سعد مجيد - العراق


  يقفان متجاورين، تحيط بهما أشجار الصنوبر من كل جانب، كأنما تتلصص عليهما، وتختلس النظرات.. وجنتيها كأنهما حبات رمان، واضعة كفيها الواحدة فوق الأخرى؛ كي تخفي توترها... يحدق إليها وفي عينيه لمعة تنذر بهبوط دمعة الصمت يطول وهما على هذه الحال، يقطعه صوت براء:
 _ ما معنى صمتك هذا؟ ألم تخبرني بأن هناك أمرا طارئا، هيا أسمعك .
_حسنا،حسنا .. في شيء من التردد أكمل حديثه:
 براء، أنا أعتذر منك ِ؛ لا أدري كيف أبدأ بإخبارك.
_ مهند إن لم تتكلم فلأذهب .
_ سأتكلم قبل فوات الأوان .
يُخرِج منديلا من جيبه، يمسح وجهه ورقبته اللتين نضض عليهما سيل العرق
  _ عندما كنا في المرحلة الأولى، وانا ذاهب إلى قسم القانون، لفت نظري مشهد غريب وبذيء، اقتربت أكثر، فوجدتكِ هذا ماظننته في وقتها جالسة بالمقربة من شاب ممسكين بيد بعضيكما ..ولسببٍ ما بقيت أشاهدكما، ثوانٍ وإذا به يقبل يدكِ وأنت متلذذة ولم تعترضي،  رغم مرور العديد من الطلبة وانتشارهم كالذباب حولكما!
 امتعضت، وابتعدتُ وأنا أدردم كلمات مع نفسي 'ويسألونك لماذا لا تتزوج ببنت الجامعة!'
 هذا الموقف بقي متشبثا في ذهني، بتُ أكرهك بشدة؛ سيما وأنا أراك تلعبين دور العفيفة أمام الجميع سواي.. وبكونكِ جميلة، فقد كان توافد الخُطاب - المخدوعين بهذا الملاك الذي يتخبأ خلفه شيطان - كثير، وفي كل مرة كنت حاضرا، فأسارع في نصحهم بالابتعاد عنكِ، وأقص عليهم ما جرى، كنت أشاهد نفسي كنبيٍ أرسله الله . مرت السنون الأربع وأنا لم أنصرف عن ذاك الطريق، إلى أن أظهر الله الحق، قبل أسبوع تقريبا وبينما كنتُ مع بعض الأصحاب متوجهين إلى الفنون الجميلة  لمشاهدة عرض تمثيلي قد اشترك فيه صديقنا، بدأ العرض !!
صدمت وكدت أصرخ أمام الملأ "ماذا تفعلي هنا؟؟ ومع الشاب نفسه!"
 براء مازالت مصدومة، لكن تحملت لتسمع النهاية، تابعَ:
 ما إن انتهت المسرحية حتى ركضت خلفكِ، اقتربت منك وصرخت: براء توقفي حالا.. هَيْ أنتِ ألم تسمعي؟
رآني خالد صديقي الممثل، وبعدما أقبل سالني : مابك تصرخ ؟
وحدثته بالأمر وإذا به يقول بأنكِ زميلته ومتزوجة من الشاب نفسه واسمك عذراء!!
 لم تكوني أنتِ يا براء، لم تكوني أنتِ..لم أصدقه وخلته يكذب؛ فأي هراءٍ هذا أنا لستُ ذكيا لكني لست غبيا لتنطلي عليَّ كذبة كهذه.. صعقني ببرهانه؛ فقد جعلني أتعرف عليهم، بل ويصبحان صديقيَّ!
 حقا لَهو أمر عجيب؛ فبعض الحقائق نتمنى لو تتوارى تحت جهلنا على أن نعلمها!
 في ذاك اليوم عدتُ إلى منزلي وبقيت حبيسا فيه لمدة يومين...
جلس أرضا وحشر رأسه بين قدميه وأجهش بكاءً... أراد إكمال حديثه، لكنها استوقفته؛ فما الضير إن لم تعلم الباقي، وما أهميته بعدما سمعت كل هذا.
  _ أأنهيتَ قصتك أيها البطل، آها .. أنهيتها فعلا، إذن اسمح لي بالتصفيق بحرارة على براعتك هذه .
أخذت تصفق بسخرية وهي باكية.. أوليس الوقت مبكرا  للاعتذار، لِمَ هذه العجلة، هناك متسع من الوقت بعدْ، بقي أسبوع على تخرجنا، كان من المفترض بك أن تكتمه إلى آخر يوم ليكون آخر لقاءٍ بيننا، تبا لجرأتك ، تبًا لكل شخص يدَّعي أنه رجل.
أهو سهل لهذه الدرجة  تشويه سمعة الناس!!
لماذا لم تتكلم معي وتواجهني بدلا من التكلم خلفي، لن أسامحك ماحييت لتعلم هذا الأمر.
 مسحت دموعها وهمت بالذهاب لكنه وقف أمامها حاني الرأس، باكي العين متوسلا بمسامحته . أنّبته وابتعدت هاربة مع دموعها.
 مرت الأيام سريعا وتخرجا، حاول العثور على شيء يوصله إليها، لكنه لم يعثر وبقي بتأنيب الضمير، رفض الزواج وابتعد عن أصدقائه، انشغل في العمل، أنهك نفسه فيه كي لا تخونه ذاكرته وضع صورتها نصب عينيه...مضى الآن على تخرجهما سنتان وبضعة أشهر، وإذا به يراها متجهة إلى المطعم الذي يعمل فيه ومعها رجل تمشي على حذر وهو يسندها إليه.. ينظر لهما من خلف الشبابيك المظللة، يبدوان لائقين لبعضهما.
 يجلسان  متقابلين على إحدى الطاولات المنزوية والتي تطل على الشاطىء، يراقبهما من بعيد؛ فهو لا يرغب بأن تراه. لكن عمله أرغمه على أن يظهر وجهه، قدم لهما ماطلباه من الطعام.  براء لم تنتبه له؛ كانت تبحث عن شيء ما في حقيبتها. لكن زوجها تعرف عليه.
 _ألستَ مهند؟؟
 رفعتْ براء عينيها لتراه شاخصا أمامها، لم تتكلم، وأحست بصدمة؛ فكيف يعرفه زوجها؟
 _نعم ، أنا هو .
_ربما لا تتذكرني، لكني مازلت أذكرك، أنت ذاتك الذي حذرتني من الزواج من براء، لكني لم أكن غبيا لأصدق كلام شخصٍ واحد وأكذب الجميع .
_سبق وإن اعتذرت من زوجتك، وها أنا الآن أعتذر منكما مجددا، فقد كان سوء فهم .
لا على العكس، يتوجب عليّ شكرك؛ فلولاك ولولا إشاعتك الكاذبة لكانت براء زوجة رجل آخر.
   طأطأ رأسه وذهب.
 نظر الزوجان لعيني بعضيهما، أمسك يدها وقبّلها، همس لها "أنتِ أجمل إمرأة في دنياي وأجمل ماخلق ربي"
لَهي خيبةٌ أن يقع الإسان في قعر ظنونه!

 

تعليق عبر الفيس بوك