إشكالية العلاقة بين الحلم والواقع في" منامات" جوخة الحارثي (2)

د. إحسان اللواتي – جامعة السلطان قابوس

 

لم تقنع العلاقة الإشكالية بين الحلم والواقع، في هذه الرواية، بالبقاء ضمن دائرة المضمون والمعنى حتى تجاوزتها إلى دائرة التقنيات الفنية التي لجأت المؤلفة إليها، مستعينةً بها في جعل الجانب التشكيلي الفني من روايتها وثيق الارتباط بالجانب المضموني بنحو يفيد فيه كل منهما من إمكانات الآخر، بل بنحو يندمج فيه الاثنان في وحدة إبداعية موحية ومؤثرة في آن.
ويمكن هنا أن يلاحظ نوعان من التقنيات الفنية: أما أولهما فتقنيات التداخل بين الحلم والواقع، وأما الآخر فتقنيات الانفصال بينهما. وما يأتي حديث فيه بعض التفصيل عن هذين النوعين.

1-    تقنيات التداخل بين الحلم والواقع:
الدعوى المثارة هنا أن الكاتبة قد لجأت، في حديثها عن الواقع وأحداثه، إلى استعمال تقنيات فنية هي أقرب ما تكون إلى سمات الأحلام، وهذا ما سوّغ تسميتها " تقنيات التداخل بين الحلم والواقع"، ومن أهم هذه التقنيات:
أ‌-    تقطيع السرد, فالسرد في هذه الرواية – على ضموره, كما سيأتي قريباً – يتصف بأنه متقطع الأجزاء, يتلقاه القارئ بنحو متفرق جزءاً فجزءاً, مع كون هذه الأجزاء متفاوتة فيما بينها طولاً وقصراً, وتسير سيراً زمانياً منتظماً في خط مستقيم ابتداءً من الماضي وانتهاءً إلى الحاضر. قصة "مي", أخت الراوية, مثال بارز على هذا؛ فالقارئ يتعرف إليها في البدء طالبةً في المرحلة الثانوية متضايقة من زوج أمها (34), وتغيب عن ناظريه مدةً ليلتقي بها ثانيةً في الحفلة التي أقامتها أسرتها ابتهاجاً بنجاحها وتفوقها في الثانوية (35), ويعلم القارئ بعد هذا أنها لم تُقبل للدراسة في جامعة السلطان قابوس فاتجهت للدراسة في جامعة عجمان على نفقة أختها الراوية (36). وتختفي من ثمّ عن صفحات كثيرة من الرواية وتعود بعد سنوات من الإمارات, متغيرة الأفكار والسلوك مصرة على أن تُسمى "آيات", باسم بطلة استشهادية فلسطينية (37), وأخر لقاء للقارئ معها هو حينما كانت أختها الراوية تسعى إلى تحذيرها من الانضمام إلى تنظيم سري وهي لا تبالي (38).
إن هذا التقطيع للسرد يجعل كل جزء من أجزاء قصة"مي" واقعاً وسط أجزاء مختلفة لقصص أخرى مختلفة, وهذا ما يعطي الحديث عن الواقع ههُنا سمة الحديث عن الأحلام. قال فرويد: "إنما الحلم بالأحرى, وفي أغلب الأحوال, أشبه بفسيفساء جمعت من قطع من أحجار شتى رُصف بعضها بجانب بعض, فانقطع الشبه بين الصور الناتجة عن ذلك وبين الأشكال الأصلية للحجارة التي اقتطعت منها هذه القطع" (39).

ب- المراوحة الزمنية, إذا كان تقطيع السرد في قصة "مي" المشار إليها قد اقترن بانتظام يحكم سير الزمن, فإنّ هذا الانتظام ليس سمة مطلقة في الرواية كلها, فقد يترك مكانه لسمة أخرى هي أقرب إلى سمات الحلم, وهي سمة المراوحة الزمنية, بأن يتحرك الزمن تحركاً غير خطي مستقيم من الماضي إلى الحاضر. هذا ما يمكن للقارئ أن يلحظه في قصة "الأم شمسة" مثلاً، فأول ظهور لهذه المرأة في الرواية هو عندما روت الراوية ذهابها إلى بيتها لتعليمها الكتابة (40), وينقطع السرد هنا, ويعود بعد صفحات كثيرة ناقلاً مشهداً هو أسبق زمانياً, وهو مشهد التعارف الأول بين الراوية وهذه المرأة (41).
ومع أنّّّ مسوغات مختلفة قد تكون وراء لجوء الأدباء إلى عدم المحافظة على التسلسل الزمني في رواياتهم, فبلزاك مثلاً استعاض عن هذا التسلسل بما سماه " الزمن الاجتماعي", وقال مدافعاً عن فكرته هذه: "لا يوجد في العالم شيء يتألف من كتلة واحدة, بل كل شيء فيه يبدو على شكل فسيفساء" (42), بيد أنّ ما يعنينا، في المقام الأول هنا، هو كون المراوحة الزمنية سمة من سمات الأحلام، ففيها " قد يتعرض تسلسل الأحداث أيضاً لقلب، فإذا بالمقدمات أو العلل يأتي ترتيبها بعد النتائج أو المعلولات " (43). ومعنى هذا أن السرد في قصة الأم شمسة وأمثالها، وإن كان سرداً للواقع والتفصيلات المرتبطة به، غير أن تقنية المراوحة الزمنية قد تكفلت بجعل هذا الواقع يبدو حلمياً، لكونها سمة حلمية في الأساس.

ج- تبادل الضمائر أماكنها، من دأب الراوية أن تتحدث عن نفسها مستعملة ضمير المتكلم في معظم صفحات الرواية، وهذا هو المنتظر منها ما دامت هي الشخصية الرئيسة الأولى فيها. بيد أنّ الملاحظ أنها خالفت ما دأبت عليه عندما صورت لنا حالتها حين تشنجت وفقدت الوعي، فظنها أهلها مسكونة بالجن، فهنا استعملت ضمير الغائب في الحديث عن نفسها:
"أسفل السرير وجدوها ملقاة، فمنها مزرقّ مزبد، عيناها زائغتان، ذهلت أمها وأخذت ترتجف بجانبها..."(44).
ثم لماّ تحسنت حالتها، عاد ضمير المتكلم:
" وحين عدتُ بعد أمد، كانت غمة التشنج والصد قد انجلت، وثقوب حاجز العلاقات مع البشر قد رتقت، ولكن الجني المارد لم يخرج من قمقم روحي، وما سكنها حتى ماجت بالسر خفق جناح اليأس بلا سكون"(45).
وهكذا كانت الحال أيضاً حين أوغلت الراوية مع حبيبها في أحلامهما المحلقة في آفاق وردية بعيدة، فقد غاب ضمير المتكلم:
" حلما بالبلدان التي سيزورانها على جواد اللهفة، بكل المقاهي التي ستعرفهما بالمطارات التي سيقفان فيها مشتبكي الأيدي"(46).
وإذا أراد المرء أن يتوقف قليلاً إزاء هذا التبادل الواضح لأماكن الضمائر، فإن عليه أن يلحظ في البدء أنّ " التمييز بين صيغ الضمائر الثلاثة يفقد في الرواية كثيراً من الصلابة التي يمكن أن يتحلى بها في الحياة اليومية، فالضمائر الثلاثة هي على اتصال متبادل"(47). ومع هذا، قد لا يكون من المجازفة أن تربط القضية بالتمييز الذي ذكره الشكلاني الروسي توما تشفسكي بين نمطين من السرد، هما: السرد الذاتي والسرد الموضوعي(48)، فالسرد يكون ذاتياً عندما تلحظ الحوادث والأشياء من منظور ذات معينة تكون قريبة منها جميعاً، بحيث لا يتعرف القارئ هذه الحوادث والأشياء إلا بعيني هذه الذات القريبة. وأجلى ما يتحقق هذا حين يكون السرد بضمير المتكلم، فهذه الطريقة" تجعل القارئ يعتقد ــ في كثير من الأحيان- أن هذه القصة المروية ليست إلا تجربة ذاتية لمؤلفها، وأن أحداثها قد وقعت له فعلاً، وخاصة إذا نجح المؤلف في إيهام القارئ بواقعيتها"(49). وفي المقابل, يكون السرد موضوعياً عندما تتم المحافظة على مسافة معينة بين الأشياء والحوادث من جهة, والذات من جهة أخرى, فيبدو كل شيء كما هو عليه في الواقع, بعيداً عن الذات. ويتكفل استعمال ضمير الغائب بهذا خير تكفل.
إنّ حضور الذات القريبة في السرد الذاتي يقتضي افتراض الوضوح في رؤية الحوادث والأشياء, كما أنّ غيابها في السرد الموضوعي قد يقتضي افتراض عدم الوضوح, بل الإبهام أحياناً. وهنا نصل إلى سمة مهمة من سمات الأحلام, وهي السمة تتلخص في قول فرويد: "هناك أحلام واضحة وضوح أحداث الحياة الواقعية, بل واضحة إلى حد نحتاج معه, حتى بعد يقظتنا, إلى بعض الوقت لكي ندرك أن الأمر لم يكن إلا حلماً. وهناك غيرها واهنة أشد الوهن, مطموسة, مشوشة. بل من الأحلام ما يكون بعض أجزائه في منتهى الوضوح أحياناً, بينما بعضها الآخر مبهم إلى حد الاستغلاق" (50).
وبناءً على ما تقدم، لا يكون تبادل الضمائر أماكنها ضرباً من ضروب التفنن اللفظي أو التزويق الكلامي المجرد، فهو تقنية من التقنيات المهمة التي أسهمت في التداخل بين الحلم والواقع.

د- التزامن الحسي أوتراسل الحواس أو تجاوبها، وهذا يمكن تعريفه بأنه " تداعي إحساسات منتمية إلى سجلاّت حسية مختلفة" (51)، أو بعبارة أوضح، هو " ربط الإدراكات الحسية الناشئة عن أحساسين أو أكثر، وأشيعها بين الأدباء ربط السمع بالبصر" (52).
ومع أنّ " هذه الخاصة تعدّ من الناحية الفيزيولوجية، شأنها شأن عمى الألوان بالنسبة للأخضر والأحمر، من مخلفات مرحلة سابقة كان فيها الجهاز الحسي للإنسان غير قادر نسبياً على التفريق بين الإحساسات" (53)، فإن الأدباء اتخذوا ويتخذون منها تقنية فنية مهمة تعينهم على إبراز الجدة في رؤاهم إلى الأشياء المألوفة، ومشاعرهم إزاءها، إضافة إلى إدهاش القارئ واجتذابه بواسطة غرابة الصور التي يتلقاها.
لقد لجأت الرواية إلى استعمال هذه التقنية في مواضع عدة، منها:
-    " كرّت شهور لا أرى غير الصوت" (54).
-    " رأيت صوته واضحاً " (55).
-    " البدايات حلم، والنهايات؟ حلم آخر بطعم آخر" (56).
وهذه التقنية، بما فيها من خلط لمعطيات الحواس المختلفة وتبادل لمواقعها، تذكّرنا بالأحلام، وتسهم من ثمّ في التداخل بينها وبين الواقع، ففي الأحلام " نشاهد بوجه خاص صوراً بصرية، قد تصاحبها أحياناً عواطف وأفكار وانطباعات متأتية من حواس أخرى غير البصر" (57).

ه- ضمور السرد، إذا كنا " نتفق جميعاً على أن ركن الرواية الرئيس هو السرد القصصي" (58)، فقد يبدو للوهلة الأولى من الغريب أن يكون السرد ضامراً وتكون حركته حركة بطيئة غير نشطة في أية رواية من الروايات. لكن هذه الغرابة سرعان ما تتقشع وتزول إذا ما أخذنا في حسباننا أنّ اللغة في عدد غير قليل من الروايات الحديثة تسعى إلى ملامسة تخوم الشعر، فهي " لم تعد لغة سرد وظيفتها الحكي، بل أصبحت لغة التركيز على الأشياء. والسبب في هذا أنها تلح على وجهة النظر وتجعلها في الصدارة، كما تلح على تقديم المشاعر والتجربة الداخلية" (59).
إنّ السرد في " منامات" خافت اللون، قليل الكثافة، تستعيض الرواية عنه بالإمعان في الغور في عالم الأحلام واللجوء المتكرر إلى الحوار والوصف والتعبير عن المشاعر والإحساسات الداخلية، إضافة إلى سمة مهمة تسم هذه الرواية هي ميلها الواضح إلى تضمين عبارات المتصوفة . ومما يسترعي الانتباه قول الراوية:
" أقول لنفسي: فلأسرد هذه الأحداث المجنونة سرداً منطقياً، فإذا بي أكتشف ألاّ أحداث هناك، مشاعر فقط، مشاعر تختزل الحياة كلها"(60).
وهذه القولة تدل دلالة واضحة على وعي لدى كاتبتها بأهمية حضور السرد فيما تكتبه، حتى لا يقال عن عملها الفني هذا: إنه " لا يشكل رواية بالمعنى الفني المتعارف عليه" (61)، لكن يبدو أن إخلاصها لتجربتها الداخلية ورغبتها في أن تكون صادقة فنياً في التعبير عنها كانا أقوى من أن تكون حريصة على أن تكون كتابتها" رواية بالمعنى الفني المتعارف عليه", هذا إذا كانت الكاتبة من الأدباء الذين يعترفون بشيء اسمه " المعنى الفني المتعارف عليه"!
لقد دعا الكاتبة حرصها الشديد على الغور النفسي الداخلي إلى أن تجعل كثيراً من صورها للواقع المعيش والأحداث الجارية في الرواية صوراً أشبه بالأحلام. نقرأ أمثلة:
ـــ " لقد هوت تلكم الكلمات المعدنية محدثة دوياً هائلاً، لم ينِ يحفر داخلي بأطرافه الباردة المدببة" (62).
ـــ " كل صباح كأنما أخوض زبد البحر الهش إليه، وإذا لم أقل تحرقني الكلمات ببطء منتظم كأي ورقة صفراء لا حاجة لها" (63).
ــ " كأن سيلاً مندفعاً هائجاً قد انبثق من أعلى الجبل وحطم من الصخور ما حطم، ووقفنا نحن أمامه بكل ضعفنا البشري. هل يوجد أمام طيننا الفاني غير الذوب في السيل العظيم؟" (64).
وهذه الصور المتاخمة لعالم الحلم تبين بجلاء أن "الواقع لا يظهر للفنان مجرد عالم خارجي, بل عالماً يرتبط به الإنسان بتجارب عاطفية، وترجم في فكره على أساس من هذه التجارب" (65). وإنّ الحرص على الغور الداخلي، الذي يعود اليه السبب الرئيس في ضمور السرد، ليعني في الحقيقة الرغبة في الاتصال بسمة أساسية من سمات الحلم، فمن المعلوم مدى ارتباط الحلم بأعماق النفس البشرية، وهذه المعلومة سحيقة القدم، فقد " ذهب سقراط إلى أن الأحلام تمثل صوت الضمير، وإنه لذو أهمية كبرى أن نقيم وزناً لهذا الصوت وأن نستجيب له" (66).
وفي ختام الحديث عن تقنيات التداخل بين الحلم والواقع ،يجدر القول : إنّ التقنيات المذكورة لا تدع لدى الباحث أيّ مجال للشك في انتماء الرواية إلى ذلك النوع الخاص من الكتابة القصصية المسمى "تيار الوعي"، وهو "نوع من القصص يركز فيه أساسًا على نوع من مستويات ما قبل الكلام من الوعي بهدف الكشف عن الكيان النفسي للشخصيات" (67). ولمّا كان من المعلوم أنّ "مستويات ما قبل الكلام من الوعي لا تخضع للمراقبة والسيطرة والتنظيم على نحوٍ منطقي"(68) ، كان من الواضح مدى الصلة الوثيقة بين هذه المستويات والأحلام ؛ ذلك أنّ "معظم أحلامنا لتجمعها سمة واحدة: إنّها لا تراعي قواعد المنطق التي تحكم تفكيرنا الصاحي اليقظ"(69).
وإلى هذا المنطلق نفسه ، منطلق ابتعاد روايات تيار الوعي عن التنظيم المنطقي ، يتسنى إرجاع التقنيات التي تقدم الحديث عنها ، فهي في أساسها تجليات أو تطبيقات لتجنب ما يتطلبه المنطق الدقيق من تنظيم يتمثل في سرد منتظم الأجزاء غير متقطع ، وزمن يسير سيرًا خطيًا مستقيمًا ، وضمائر تأخذ مواضعها المحددة بدقة ، وحواس لا تتداخل فاعلياتها.
ومثل هذا يمكن قوله عن التقنية الأخيرة – ضمور السرد- أيضًا ، فالضمور هنا ما هو إلا تجلّ بارز من تجليات انتماء هذه الرواية إلى تيار الوعي ؛ لأنّ  "الحكاية الجذابة التي يلهث وراء حلّها القارئ ليست أساسًا في رواية التيار ، فالوعي كثيرًا ما يستقل عن الأحداث ، بمعنى أنّ الأحداث الخارجية ، وإن كانت هي التي توجهه أحيانًا ، إلا أنه سرعان ما يستقل عنها و يفقد الرابطة المباشرة معها "(70).

تعليق عبر الفيس بوك