دراسات تربويّة ونفسيّة:

كُنْ إيجابيا تنجزْ أكثر وتتعلَّمْ أسرع

أ.د./ أسامة محمد عبدالمجيد إبراهيم
أستاذ علم النفس التربوي – جامعة سوهاج

 

ليس جديدا على المربين أن يسمعوا أن تكوين اتجاهات إيجابية نحو الحياة والأشخاص والموضوعات يجعلنا أكثر سعادة، ويزيد فرصنا في النجاح في أي مسعى، وقد يساعدنا على اتخاذ قرارات أفضل، لكن ربما من المدهش أن نعرف أن تأثير الاتجاهات الإيجابية نحو تعلم مادة أو موضوع قد يتساوى مع تأثير معدل ذكائنا!
هذا ما كشفته دراسة جديدة أجراها باحثون بكلية الطب بجامعة ستانفورد (يناير 2018) باستخدام آلية التصوير بالرنين المغناطيسي (fMRI) على الدماغ. عندما درس باحثو ستانفورد أدمغة الأطفال باستخدام تصوير الرنين المغناطيسي لمعرفة كيف يؤثر الاتجاه الإيجابي على الإنجاز، وجدوا شيئا مذهلا. لقد اتضح أن الاتجاه الإيجابي نحو التعلم له تأثير على يكافئ تأثير معدل الذكاء.
يعتقد المربون، وحتى قادة الأعمال، أن الاتجاه الإيجابي يؤثر على الإنجاز والتعلم، ولكننا لا نعرف إلا القليل عن الآليات المعرفية العصبية الكامنة وراء ذلك. أيضا نحن نعرف أن الأطفال الذين لديهم موقف إيجابي نحو تعلم موضوع ما يؤدون فيه على نحو أفضل، لكننا لا نعلم هل قدراتنا العالية هي التي تجعلنا نستمتع بما نؤدي، أم أن استمتاعنا هو الذي يقودنا لإتقان ما نقوم به؟ هذه الدراسة هي الأولى من نوعها التي توضح لنا الآليات المعرفية العصبية التي من خلالها يؤثر التوجه الإيجابي على عمل الدماغ، وعلى وجه التحديد، وظائف "الحصين" (منطقة الدماغ المسؤولة عن الذاكرة).
لتناول هذا الموضوع، قام فريق البحث بتحليل مهارات الرياضيات والاتجاهات لدى 240 طفلا تتراوح أعمارهم بين 7-10 سنوات باستخدام التصوير بالرنين المغناطيسي الوظيفي (fMRI) أثناء قيامهم ببعض العمليات الحسابية. وكما كان متوقعا، فإن الأطفال الذين حققوا نتائج جيدة في الرياضيات كانوا يحبون الرياضيات أكثر، سواء وفقا للتقارير الذاتية للطلاب وأولياء أمورهم، وكان الأطفال الذين يكرهون الرياضيات كان أداؤهم ضعيفا. ولكن مسح الدماغ أظهر أيضا شيئا آخر مدهشا. كشفت الصور أن الحُصين hippocampus  (هو ارتفاع مطول دائري يظهر في القرن الصدغي للبطين الجانبي للدماغ، ويتكون من منطقة غير عادية من قشرة الدماغ، وهي منطقة في الدماغ مرتبطة بالذاكرة والتعلم)، كانت أكثر نشاطا بشكل ملحوظ لدى الأطفال ذوي التوجه الإيجابي نحو الرياضيات.
قام الباحثون بفحص الآليات العصبية الكامنة وراء الارتباط بين الموقف الإيجابي والإنجاز الأكاديمي في مجموعتين مستقلتين من الأطفال (مجموعة الاكتشاف: ن = 47؛ مجموعة النسخ المتماثل: ن = 28) واختبار الفرضيات المنافسة فيما يتعلق بالأدوار المتمايزة لأنظمة الدافعية ونظم ذاكرة التعلم. في كلتا المجموعتين، فوجدوا أن التوجه الإيجابي كان مرتبطا بزيادة مشاركة نظم ذاكرة التعلم في "الحصين"(منطقة الدماغ المسؤولة عن الذاكرة). وكشفت نموذج المعادلة البنائية أيضا أنه في كلا المجموعتين، كانت الزيادة في نشاط الحصين والاستخدام المتكرر للاستراتيجيات القائمة على الذاكرة الفعالة تتوسط العلاقة بين الموقف الإيجابي والإنجاز الرياضيات العالي. وقد أمكن للتوجه الإيجابي نحو الرياضيات أن يتنبأ بالإنجاز في الرياضيات بشكل فريد، حتى بعد ضبط العديد من العوامل المعرفية والعاطفية الأخرى.
لقد أدرك الباحثون والمعلمون منذ فترة طويلة أن الأطفال الذين لديهم موقف إيجابي نحو الرياضيات يؤدون على نحو أفضل في الرياضيات، ولكننا لم نكن نعلم هل اتقاننا للرياضيات هو الذي يجعلنا نستمتع بها، أم أن استمتاعنا بالرياضيات هو الذي يقودنا لإتقانها؟
استخدم الباحثون التصوير بالرنين المغناطيسي للدماغ لرسم خريطة الآثار العصبية الإيجابية. وقال "لانغ تشن" - الباحث الرئيسي للدراسة - إن التأثير الإيجابي كان أكبر مما توقعه الباحثون. وقال ارين ديجيتال -من ستانفورد- استنادا إلى البيانات التي حصلنا عليها، فإن الإسهام النسبي الفريد للتوجه الإيجابي نحو الإنجاز في الرياضيات كان كبيراً ويماثل مقدار الإسهام الذي يعزى للذكاء"!
تخبرنا نتائج هذه الدراسة أنه بغض النظر عن معدل الذكاء، فإن الموقف الإيجابي يمكن أن يساعد أي شخص على تحسين الذاكرة أو تقليل القلق – هذا على الرغم من أنها بمفردها لا تضمن النجاح. ووفقا لهذه الدراسة، إن الاتجاه الإيجابي يفتح الباب أمام الأطفال للعمل بشكل جيد، وإن كانت لا تضمن ذلك، حيث يعتمد النجاح على عوامل أخرى أيضا.
هذا البحث يسلط الضوء على مفهوم الذي طالما أكد عليه قادة الأعمال بأن الإيجابية تولد نتائج إيجابية، وأن الاشخاص الذين يفكرون بشكل إيجابي من المحتمل أن يكونوا أكثر نجاحاً في الحياة والتعلم، وأن الإيجابية تساعد عقولنا على التفكير والعمل بشكل أفضل.
وعلى الرغم من أن الدراسة لم تحدد بالضبط مقدار الإنجاز الذي يعزى الى النجاح السابق في الرياضيات، والمقدار الذي يعزى إلى التوجه الإيجابي نحو التعلم إلا أنهم يعتقدون أن العلاقة بين الاتجاه الإيجابي والإنجاز الرياضي متبادلة، ثنائية الاتجاه.
وأن التوجه الإيجابي بمثابة التمهيد (للولوج للتعلم) الذي يفتح الباب أمام الإنجاز العالي، مما يعني أن تكويننا اتجاهَا إيجابيّا سيجعلنا نلج إلى حلقة جيدة من التعلم. ومهما كان الوزن النسبي الدقيق للعوامل المختلفة، فمن الواضح بالفعل أن الاتجاه نحو المادة المتعلمة له تأثير أكبر على الأداء مما توقعه العلماء.
هذه النتائج تخبر المربين أن بإمكانهم تحسين عمل دماغ أبنائنا وطلابنا تحسينا حقيقيا وليس معنونا. فهذا البحث يؤكد أنه من الممكن جدا مساعدة الأطفال على تحسين قدراتهم من خلال تكوين اتجاهات أكثر إيجابية تجاه موضوع التعلم. وأن هذا التعديل في الاتجاهات سيغير بالعفل الطريقة التي يعمل بها الدماغ على نحو أفضل، مما يمنحهم دفعة في المدرسة.
ربما حان الوقت للتوقف عن السخرية من الملصقات المحفزة والداعية للتفاؤل والتفكير الإيجابي والتقدم نحو الأمام.
يمكن الرجوع للدراسة الأساسية على هذا الرابط لمزيد من المعلومات
http://journals.sagepub.com/doi/pdf/10.1177/0956797617735528

تعليق عبر الفيس بوك