مناجم الذهب (الحلقة الحادية عشرة)

قيادة أم الغوارف

 

عائشة البلوشية

جاءت عودته إلى ظفار هذه المرة في طائرة من نوع "داكوتا 2"، حلقت من مطار بيت الفلج، في رحلة استمرت أربع ساعات، كانت بشائر بدايات موسم الخريف الجميل قد بدأت، حيث الرذاذ الخفيف وبداية الخضرة الممتدة بامتداد النظر، عاد إلى هناك والحرب لا تزال تحصد ما تحصده من أرواح، لكنه عد انتقاله هذه المرة إلى قيادة أم الغوارف نعيما مقيما؛ فقد وجد أنه يشترك مع عشرة جنود في العنبر، وحظي بمكتب مستقل في قلعة قيادة أم الغوارف مع أجهزته الحبيبة ليعمل ما يطلب منه مراسلات أو تقارير، كانت هذه الفترة في حياته في مدينة صلالة تختلف تمام الاختلاف عن تلك الفترة في الجبل عندما قَدِم هنا لأول مرة، بحيث تعرف عليها عن قرب، فوجدها مدينة حصينة محاطة بسياج شائك له خمس بوابات محروسة بجنود من شمال عُمان، بوابتان من جهة الغرب، وأخرى في الجنوب من جهة عوقد، ورابعة من جهة أرزات في الشمال. أما البوابة الخامسة، فلا تستخدم إلا في الحالات الطارئة مقابل معسكر قيادة أم الغوارف، وبالطبع كان لا يسمح لأحد بدخول المدينة أو الخروج منها إلا من خلال بوابة صلالة؛ حيث كانت الحالة غير الآمنة بسبب الحرب تحتم عليهم اتخاذ التدابير العسكرية اللازمة لحماية المدينة، وجوده في صلالة هذه المرة جعله يتعرف ويرى ما لم يره منذ أن بدأ حياته العسكرية، فقد كانت الخضراوات والفواكه كثيرة وطازجة، كما أن الطعام والوجبات اليوم غير الأمس؛ لأن لمكتب السياسي طباخ خاص، يقوم بطهو الطعام لهذا العدد القليل، وبما أنه هو أحد موظفيه فقد حظي بهذا الترف، لذلك تبسم والحمد ملأ برديه بعد أيام قليلة من وصوله؛ لأنه أحس وكأنه يعيش في صورة من صور الجنة، فأجهزته التي يعشق العمل عليها تشاركه المكتب، لذلك قرر أن يبذل ما في وسعه ليثبت لرئيسه في العمل أن قرار نقله كان الأفضل رغم قصر مدة تدريبه وخدمته في بيت الفلج.

بعد أن تذوق طعم الاستقرار، قرر أن يسبر أغوار هذه المدينة المتلألئة بالرذاذ، والمزدانة بعقود الأجيد الأخضر وأحجار الزمرد الجميلة، كانت في ذلك الخريف مختلفة تماما، وكأنها تنتظر فارسا سيأتي من قلب سماء الغيب بعد عام، ويضرب بحافر فرسه الأرض فينفض عنها كل حرب وفرقة وشتات، و يغرس بكلماته الطيبة أشجارا من أعمال، أصلها ثابت في أرض السلام وفرعها في سماء العطاء اللامحدود؛ كان يتجول مصطحبا تلك الكاميرا الصغيرة التي اقتناها من سوق مطرح، فيلتقط الصور القليلة لأهل الجبل عندما يفدون عند البوابة ليشروا بضائعهم من سمن وإقط وحطب، ثم يدخلون من خلال البوابة ليبتاعوا مؤونتهم من سكر ودقيق...وغيرها، أخذ يلتقط الصور لأطفال يأسرونه بابتساماتهم البريئة وعيونهم المندهشة من غرابة هذه الآلة التي يضعها أمام عينه فيضغط زرها، ويتساءلون عن ماهيتها ليجيبهم بحب.

كان يعمل طوال الوقت، ويذهب إلى السوق أو المزارع بعد ساعات الدوام الرسمي لشراء الفواكه واللبان، ويتجاذب أطراف الحديث مع سكان الولاية على عجل، ولا ينسى أن يحاول التقاط بعض الصور كلما سنحت له الفرصة، ويعود سريعا لمكتبه ليعمل ويتدرب في آن واحد على الجهاز الذي يعمل عليه؛ وذلك حتى يتمرس على هذه المهمة؛ الأمر الذي جعله يتقنها خلال فترة وجيزة جدا، كان الحذر قد بلغ أشده بسبب ارتفاع وتيرة الاشتباكات في الجبل، بل إنها بدأت في الاقتراب من السهل؛ وبالتالي لن تكون المدينة بعيدة عن مرامي مدافع الهاون؛ هنا كان الرعب والذعر يدبان في قلوب المدنيين المسالمين بين أسوار المدينة، فكيف ستكون الحال بهم لو نزعت عنهم أثواب الأمن والأمان؟ إن هذه القلة القليلة من الاستقرار التي يعيشونها بين جنبات أسوار المدينة، وهذه المسحة البسيطة من الأمن المهدد في أي لحظة بالانفلات ستصبح عملات بعيدة المنال، ستصبح أحلاما صعبة التحقيق، وهذا أقل ما تفعله الحروب إذا حلت ويلاتها بأي أرض، ماذا سيحل بأسرهم وأطفالهم؟ بل جلس متفكرا بينه وبين نفسه عن حال أهله في العراقي، وهل أمورهم في تحسن، أم إنها ما زالت كما هي؟ وهل ستكتب له عودة إليها، أم أن رحى هذه الحرب الضروس الدائرة هنا ستطحنه بثفالها؟!

رغم الحالة الأمنية غير المستقرة حينها، إلا أنه باحث شره عن الجمال، يحاول الوصول إلى مكامنه وإن تطلب منه ذلك المشقة والتعب؛ لذا وفي إحدى زياراته للسوق وجد جهازا عجيبا، كاميرا للتصوير السينمائي تعلق بها منذ الوهلة الأولى، فسأل عن سعرها ووجد أنه وبحرص وتقنين أكثر في مصروف يده، سوف يتمكن من تدبير أمر شرائها، فقد كان يرسل بالجزء الأكبر من راتبه إلى والده ويستقطع لنفسه جزءا بسيطا جدا، لهذا ولأنه يجمع رواتب أكثر من شهر ويرسل بها إلى والده مع أحد الأشخاص الذين يحصلون على إجازة، استطاع توفير المبلغ المطلوب واقتناء تلك الكاميرا، ثم تطلب الأمر بعضا من الجهد ليتمكن من التصوير باستخدامها، وكم كان سعيدا بذلك أيما سعادة، فأصبح يغافل نفسه ليلتقط بعض الصور السينمائية ويحتفظ بها؛ فشكلت له نوعا من السلوى إلى جانب ساعات عمله الطويلة الذي لم يكن يفارقه إلا للضرورة الملحة جدا، وذلك بسبب طبيعة عمله التي تتطلب الإنصات إلى ذبذبات الجهاز وتحليلها على الدوام، ولم يدر بأنه على موعد قريب جدا مع أكثر الأحداث عظمة في التأريخ السياسي الحديث في المنطقة، وأن هذا الجندي الصغير سيكون شاهدا على العصر.

-------------------------------------

توقيع: "‏الظلام لا يُمكنه أن يطرد الظلام، فقط النور هو ما يفعل ذلك، والكراهية لا يمكن أن تطرد الكراهية، فقط الحب يستطيع فعل ذلك".

مولانا جلال الدين الرومي