السياسة الخارجية العمانية وإدارة الأزمات (5-5)

د. عيسى الصوافي – سلطنة عمان
دكتوراه في إدارة الأزمات

 

في المقالة السابقة تحدثنا عن المرتكزات الواقعية للسياسة الخارجية العمانية والتي تشكل في مجملها من مجموع الإحالات التي تؤثر في مواقف السلطنة وتحدد اتجاهها، فتفرض حضورها عند اتخاذ القرار الخارجي وتوجهه بشكل منتظم يجعله يسير في خط مستقيم لا يتعرض للانكسارات ويعبر عن نفسه بكل انسجام أمام أية متغيرات خارجية أو مستجدات على المستوى الدولي. وفي هذه المقالة سوف نناقش (المرتكزات التطبيقية) للسياسة الخارجية العمانية حيث تتمثل هذه الموجهات في مجموع العناصر التي تتدخل في تحديد المواقف على الصعيد الخارجي، لكنها بخلاف سابقتها تظل موجهات اختيارية لصانعي القرار في السياسة الخارجية أن يعدلوا منطلقها ومضامينها ومكانها ودرجة الانضباط معها. وفي المواقف العمانية نلاحظ حضورها في حقبة أكثر من أخرى وبدرجة تتفاوت وفق الرؤى والإكراهات والإختيارات التي تكون بالمتناول. ويمكن أن نيتشرف البعض منها على النحو التالي:

(1) الموقع الأساسي للمعطيات المحلية:
لقد أدركت السلطنة، وهي تُسطر سياستها الخارجية، أن معظم الدول العربية عندما تتعاطى مع الشأن السياسي الدولي، فإنها تضمن عند توجهها إلى الرأي العام الدولي خطاباً سياسياً مصاباً بالانفصامية الواقعية بين الشأن الداخلي ومعطياته والفهم الدولي للأحداث والتطورات. وهذا يدل علي فهم غير ناضج لحركة العالم ولقوانين تلك الحركة على مستوى العلاقات، وعلى مستوى المصالح. ولذا، كما ترى السلطنة، فإن هذا هو السبب الأكثر أهمية في افتقاد المشكلات العربية المحلية والإقليمية للتعاطف الدولي المطلوب.
وتداركاً لهذه الازدواجية السياسية، فقد حسمت السلطنة موقفها في وقت مبكر، حيث طالبت بضرورة تحصين الداخل والانطلاق من معطياته والإفادة من تأثيراته التي تدخل في صلب المعادلة السياسية العالمية، وبالتالي يسهل معالجة القضايا المستعصية وتحقيق الأهداف(..).
لقد اتخذت السياسة الخارجية العُمانية موقفاً واضحاً من الصراع العربي ــ الإسرائيلي، اتسم أولاً بالالتزام بالتوجه العربي العام، ولم يظهر الجانب العُماني تميزاً أو تخالفاً إلا في الجوانب المتعلقة بالآليات التي يجب أن يتم بواسطتها حل الصراع. أما إذا لم يتحقق الإجماع أو شبه الإجماع بين الدول العربية فإن عُمان تميل إلى الأخذ بالمبادرات والحلول السلمية.
وفي الوقت الذي كان فيه الموقف العربي حتى عام 1973م يميل إلى إعطاء الأولوية للحسم العسكري التزمت عُمان بذلك في حدود الإمكانات المتاحة لها(ix)، مع احتفاظها بالبحث عن مخارج سلمية للأزمات التي كانت تحيط بالمنطقة العربية. وبعد ذلك بدأ الموقف العربي يتبلور حول رؤى جديدة لحل الصراع العربي ــ الإسرائيلي بالطرق السلمية، وهذا ما قالت به عُمان منذ فترة طويلة، ففي السادس عشر من تشرين الأول عام 1973م دعا الرئيس المصري أنور السادات في خطاب له أمام مجلس الشعب توجهاً مثل الانطلاقة الأولى لمؤتمر جنيف الذي عقد في ديسمبر من نفس العام، والذي استند إلى المادة الثالثة من قرار مجلس الأمن الدولي رقم 338 التي نصت على «وجوب بدء مفاوضات بين الأطراف المعنية تحت إشراف ملائم بهدف إقامة سلام عادل دائم في الشرق الأوسط»(..).
انعقد المؤتمر تحت رعاية أمريكيا سوفييتية مشتركة، وحضره عن الجانب العربي كل من مصر والأردن، بينما تغيبت سوريا التي رأت أن إسرائيل تناور. وظل الموقف السوري رافضاً للحوار حتى الثمانينيات من القرن العشرين.
وبالرغم من أن المؤتمر لم يستغرق إلا جلستين أسفرتا عن تشكيل لجنة عسكرية للفصل بين القوات المتحاربة، إلا أنه شكل أساسا للعديد من المبادرات التي أيدت في مجملها التوجه العُماني نحو الحل السلمي لحل الصراع العربي الإسرائيلي.
لقد بنت عُمان موقفها هذا على «ثابت» التوجه نحو الحلول السلمية، وعلى قراءة معمقة للموقف الدولي الضاغط نحو إقرار تسوية سلمية دائمة للصراع العربي الإسرائيلي، وعلى تحول بعض القيادات العربية الفاعلة في الصراع العربي ــ الإسرائيلي نحو الحلول السلمية، بعد أن أدركت استحالة حسم الصراع بالوسائل العسكرية.
وفي نفس السياق أيدت سلطنة عُمان مبادرة السلام المصرية (التي انتهت بكامب ديفيد) انطلاقاً من إيمانها بتسوية الصراعات بالأدوات السلمية، إضافة إلى التزامها بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وبالتالي أقرت بحق مصر في اتخاذ ما تراه مناسبا من قرارات. كما أعربت عن تأييدها لكل مبادرة سلمية تؤدي إلى استعادة الحقوق العربية.
وعلى الجانب الآخر فقد رفضت عُمان، انطلاقا من قناعاتها وثوابتها، قرارات مؤتمر القمة العربي الذي عقد في بغداد في تشرين الثاني 1978م، واتخذ قراراً بمقاطعة مصر وتجميد عضويتها في جامعة الدول العربية. وظلت عُمان على موقفها، رغم الضغوطات والتهديدات التي تعرضت لها(..).
إلا أن ذلك لم يمنع السلطنة من التحفظ على الجزء المتعلق بالقضية الفلسطينية الذي تضمنته اتفاقية كامب ديفيد، لأنه لم يشر صراحة إلى حقوق الشعب الفلسطيني، واكتفى بذكر الاعتراف بحكم ذاتي يتعلق بالسكان وليس بالأرض(..).
قادت عُمان خلال الهجمة العربية على مصر، وتخلي الدول العربية عنها مما أضعف موقفها التفاوضي مع إسرائيل، عبر قنوات دبلوماسية سرية وعلنية، جهوداً ضخمة واتصالات مكثفة لتحقيق إجماع عربي حول الحل السلمي، وذلك بالتنسيق مع المملكة العربية السعودية(..)، وذلك عشية الإعداد لمؤتمر قمة فاس (1981م) الذي شهد طرح مبادرة الأمير فهد (ولي العهد السعودي آنذاك) التي جاءت على شكل مشروع سلام عربي قدم للمؤتمر مدعوماً من قبل دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية(1)، عكس توجهاً يستبعد الحل العسكري من جهة، كما يستبعد صيغة كامب ديفيد من جهة أخرى(..).
أيدت السلطنة المشروع السعودي، لأنها عدته محققاً للمطالب العربية إلى حد ما، وأنه ــ أيضاً ــ جاء متفقاً مع قناعاتها ورؤيتها السياسية بأهمية الحل السلمي للصراع العربي ــ الإسرائيلي(..).
وفي ضوء التمزق العربي، وكنتيجة له، تجرأت إسرائيل على غزو لبنان في صيف 1982م هدفت من ورائه تحطيم المقاومة الفلسطينية، وخلق واقع سياسي جديد يتم على ضوئه التعامل مع أية تسوية مستقبلية للصراع وكردة فعل على هذا الغزو تحركت عُمان تحركاً نشطاً لمحاصرته وتقليل مخاطره وحشره في أضيق الحدود، فدعا السلطان قابوس إلى ضرورة البدء بتحرك عربي فعال. كما أعلن رفضه للطروحات الأمريكية والإسرائيلية الرامية إلى تجريد المقاومة الفلسطينية من أسلحتها وإخراجها من بيروت(..). كما بعث برسائل إلى الرئيس الأمريكي رونالد ريجان، طالبه فيها بذل كل جهد لوقف الهجمات الإسرائيلية على المقاومة، وسحب القوات الإسرائيلية.
واستمرت السياسة الخارجية على هذا النهج حتى الآن، حيث كان تعاملها مع الغزو العرقي للكويت، وعملية تحرير الكويت، وحتى الحرب الأخيرة التي احتلت بموجبها القوات الأمريكية بغداد في 9/4/2003، يعتمد على ضرورة البحث عن الحلول السلمية لكل الأزمات والقضايا الدولية والإقليمية(..).
لقد أدرك الفكر السياسي العُماني، انطلاقاً من هذه القاعدة الثابتة أن ثمة ارتباطاً جدليا بين الداخل والخارج على مختلف مستويات التنمية والعلاقات الدولية. لذا فقد أحاط الداخل والخاص بكثير من الاهتمام والدراسة والتحليل، وآمن أن التعاطي مع القضايا الدولية الهامة والمتفاعلة يجب أن يرتكز، وبصورة جلية ومباشرة، على ترصين المعطيات الداخلية. وعلى هذه الأسس جاءت المقاربة العُمانية للقضية الفلسطينية، حيث رأت السلطنة أن على العرب، قبل أن يبدأوا تداول الأمر من الخارج، أن يتفقوا فيما بينهم، وأن يجمعوا كلمتهم، وذلك بنبذ الفرقة وتوحيد السياسات، وعليه فإنه لا يمكن الوصول إلى «العالمي» قبل إنجاز «المحلي».
ومهما يكن من أمر فإن الفكر السياسي العُماني قد طالب، وبكل وضوح، بضرورة ترتيب البيت الداخلي حتى يمكن تحقيق الطموح الذي يبدأ باكتساب تأييد الرأي العام الدولي(..).

(2) الرؤية الشاملة في فعل السياسة الخارجية:
لم تلبث سلطنة عُمان كثيراً، بعد تولي السلطان قابوس مقاليد الحكم، حتى انخرطت في المجتمع العربي والإقليمي والدولي، معتمدة على المنطلقات الأساسية التي مثلت ثوابتها، ومن ذلك بناء تواصل تعاوني مع جميع الدول(..).
لقد انطلقت السياسة الخارجية العُمانية فاعلة في جميع الدوائر التي تشمل النشاط السياسي والعمل الدبلوماسي، عكست تماسك هذه السياسة وثباتها، فهي اشتغلت بكل جدية على مستوى الخليج العربي وعلى مستوى الدائرة العربية، وكذلك الشأن في الدائرة الإسلامية، ودائرة دول عدم الانحياز، وضمن المجموعة الدولية. وأكثر ما يبرز هذا التوجه، سلسلة العلاقات التي بنتها السلطنة مع معظم دول العالم، ناهيك عن المركز الحضاري الذي احتلته على الصعد كافة، حتى أصبح الموقف العُماني موضع تقدير العالم، وذلك لما حفظته للدول من احترام وتقدير لشؤونها الداخلية مع البناء على ما تفرضه المصالح المتبادلة المشتركة من أرضية إيجابية تكون أساساً للعمل الدولي الصالح والفاعل.
وهكذا، فقد التزمت السياسة الخارجية العُمانية بمجموعة من الثوابت والمرتكزات، وضعها السلطان قابوس لكونه رئيساً للدولة، ووزيراً لخارجيتها، الأمر الذي أعطى هذه السياسة مصداقية، ووضوحاً، وقوة مكنتها من الاستمرار في التطور وفق مخطط له، بكل اقتدار ودراية وحكمة.

(3) الحياد الإيجابي:
لقد ألزمت السلطنة نفسها باتباع سياسة خارجية حيادية حيال كل القضايا التي تكون طرفاً فيها، أو تلك التي تكون قادرة على التأثير فيها(..). وقرأت الدولة العُمانية الأحداث الجارية في العالم بشكل عام، وفي المنطقة على وجه الخصوص من زاوية أن من واجب كل الدول المنتمية إنسانياً للمجتمع الدولي المتحضر أن تسعى إلى نبذ الخلاف، وبالتالي الإلتزام بالحلول السلمي، وهذا لن يتأتى إن لم توجد بعض الدول القادرة على إدارة التهدئة، وذلك عن طريق إبقاء جميع القنوات مع كل الدول مفتوحة، وبناء علاقات جيدة معها، الأمر الذي يهيئ لها فرصة حل الأزمات بعد أن حققت القبول من جميع الأطراف، وهذا لن يكون إلا إذا اعتمدت هذه الدول الحيادية.
وتحقيقاً لسياسة التوازن والحياد الإيجابي، فقد أعلنت القيادة العُمانية عدم الانحياز لأي من إيران والعراق في حربهما. وقالت إنها لن تأخذ جانب أي منهما بصورة مطلقة وكاملة، الأمر الذي مكنها من المحافظة ــ وبكل اقتدار ــ على ايجاد من التوجه نحو حل الأزمة. وقد تمثل هذا الموقف برفض عُمان مقاطعة إيران وعزلها دبلوماسياً واقتصادياً، تلك الدعوة التي أثيرت خلال اجتماعات المجلس الوزاري لجامعة الدول العربية في أيلول 1987م وفي المقابل، رفضت عُمان السماح للعراق باستخدام أراضيها أو تقديم التسهيلات العسكرية لها تمكنها من شن هجمات على القوات الإيرانية الموجودة في الجزر الإماراتية المحتلة(..). وكذلك رفضت السلطنة إصدار بيان تنديد بإيران بسبب أحداث الشغب التي قام بها الحجاج الإيرانيون، خلال موسم الحج لعام 1987م، واقتنعت بالتفسير الإيراني الذي نقل إليها حول هذه الأحداث، والذي أوضح أن ما جرى كان من قبل فئات في إيران من مصلحتها تصعيد التوتر مع السعودية، وبالتالي فإنها لا تعبر عن الموقف الإيراني الرسمي(..). وبناء على هذا الموقف بدأت عُمان تلعب دوراً توفيقياً تمثل في عدة تحركات شملت قيامها بإجراء حوار مع البلدين.
وعلي المنهج نفسه تعاملت السياسة العُمانية مع ما عرف بالحالة العراقية ــ الكويتية، حيث ومنذ اليوم الأول لبدء الأزمة، حددت عُمان موقفها في حدود متطلبي الانسحاب العراقي الكامل من الكويت وعودة الحكومة الشرعية لها. وقد اعتمدت السلطنة هذين المتطلبين في كل مراحل تحركها، مع الأخذ بعين الاعتبار ضرورة المحافظة على القدرات العربية، وعدم إهدارها في خلافات بينية، مؤكدة أن أي حرب داخلية في هذه المنطقة ستجذب الاستقواء الدولي للتدخل فيها بصورة مباشرة وربما لاحتلالها وذلك لعاملي النفط وأمن إسرائيل.
وهكذا، فقد اتخذت السلطنة خطوات  عملية انطلقت من رفض الغزو العراقي، وفي نفس الوقت، رفض التصعيد ضد العراق أو إدارة شهر العرب له والقطيعة معه بشكل كامل. وبالرغم من جسامة الحدث وخطورة تداعياته واستحقاقاته فإن السلطنة لم تخرج عن تعلقها وحياديتها فلم تندفع وراء دعاوى التصعيد وذلك لأنها تدرك أن العراق هو جزء مهم من الحقيقة التاريخية، والجغرافية، والسياسية، والعسكرية، والأمنية للمنطقة (..).

تعليق عبر الفيس بوك