الحياة الفكرية والثقافية في عـُمان في النصف الثاني من القرن الثامن عشر:

نظام التعليم ومؤسساته والمراكز والمدارس العلمية: (11/11)

د. صالح بن عامر الخروصي – سلطنة عُمَان

 

    شهدت القرية العمانية وجود نظام الكتاتيب لتعليم الأطفال مباديء القراءة والكتابة وتلاوة وحفظ القرآن الكريم، ثم يأتي التدرج في دراسة الفقه والأدب وعلوم اللغة العربية، ولا يتأتى ذلك إلا للقلة من الشباب وذلك بحكم الظروف الاقتصادية السائدة آنذاك. إن التعليم في مرحلة ما بعد الكتـّاب كان يتسم بعدة سمات منها: أنه كان تقليديا في تخصصاته التي لم تخرج عن إطار علوم الشريعة الإسلامية واللغة العربية، وكان تقليديا أيضا في مؤسساته التي لم تخرج عن نطاق المؤسسات الموروثة من الأجيال السابقة وبشكل خاص تلك التي أنشأها اليعاربة. ولم يشهد أسلوب التعليم تغيرا يذكر، إذ كان العالم يلقي دروسه على الطلبة ثم يرد على تساؤلاتهم إما شفاهة أو كتابة حسبما تقتضيه الظروف، وكان العلماء يتبعون بعض الأساليب التربوية من قبيل مراعاة الفروق الفردية، ويتضح ذلك على سبيل المثال في شرح الشيخ أبي نبهان لقصيدته المسماة حياة المهج، إذ كان يشرحها باديء الأمر للمتفوقين علميا ثم يعيد شرحها بأسلوب مبسط للطلبة الأدنى في مستواهم التحصيلي. إن مؤسسات التعليم لم تخرج عن نطاق القلاع والحصون والمساجد والمكتبات والمنازل والمجالس الخاصة ويمكن التطرق إليها على النحو التالي:

أ/ القلاع والحصون:

اتخذ البوسعيديون في بداية حكمهم من الرستاق عاصمة للدولة، وكانت قلعة الرستاق مقرا للإمام أحمد بن سعيد ثم ابنه الإمام سعيد. ولا يعرف على وجه الدقــة تاريخ بناء هذه القلعة، ولكن من المؤكد أنها بنيت قبل الإسلام، وشهدت توسعات مع تعاقب الدول والأجيال ـ منذ عهد اليحمد في القرون الهجرية الأولى ومرورا بعهد اليعاربة وأخيرا في عهد البوسعيد ـ. و لم تكن القلاع مركزا للحكم والإدارة ومسكنا للإمام وعائلته فحسب، بل كانت بمثابة معهد علمي تعقد فيه الدروس ويؤمه العلماء والطلبة، وكانت مجالس الحكام يغشاها العلماء، كما وجدت في بعض القلاع (ومنها قلعة الرستاق) جوامع لإقامة الصلوات والجمع، وفي قلعة الرستاق وجد الجامع الشهير المعروف بجامع البياضة، ووجدت فيها مكتبة كبرى حوت عددا كبيرا من المخطوطات في كثير من العلوم والفنون.

ب/ المساجد

كان للمساجد في عمان دورها الريادي في العملية التعليمية منذ القرون الهجرية الأولى، بداية بأول وأقدم هذه المساجد وهو مسجد (المضمار) في سمائل الذي بناه الصحابي مازن بن غضوبة رضي الله عنه في عام 26هـ/627 ، ومساجد بهلا كمسجد (الفراج) الذي بني في القرن الهجري الأول، ثم جامع بهلا وجامع نزوى اللذين بنيا في القرن الثاني، والمساجد الأخرى التي تعاقبت على مر العصور. أما أبرز المساجد التي كانت تؤدي مهامها العلمية في الفترة التي تناقشها هذه الدراسة فمنها مسجد البياضة بقلعة الرستاق، وقد بناه اليحمد في القرن 6 أو 7 هـ / 12 أو 13م، وقد شهد هذا المسجد مبايعة عدد من الأئمة، وبعض الأحداث السياسية كعقد اتفاقيات بين الزعامات العمانية المحلية، وممن درس في المسجد أئمة اليعاربة وعلماء عصرهم منذ عهد الإمام ناصر بن مرشد اليعربي حتى بداية عصر البوسعيديين. وبرز أيضا مسجد (الحشاة) في قرية العلياء بوادي بني خروص، وقد بناه الشيخ أبو نبهان الخروصي في مطلع القرن 13 هـ/ 19م ، ومسجد (الوكيل) في مسقط الذي ينسب للسيد خلفان بن محمد البوسعيدي الوكيل والي مسقط.


ج/ المكتبات
كانت المكتبة العمانية في بداية العصر البوسعيدي زاخرة بكم كبير من المؤلفات وقد استفاد علماء هذه الفترة من مكتبات اليعاربة والنهضة العلمية التي أحدثوها، وكمية الكتب الهائلة التي انهالت على مكتباتهم من خلال غزارة التأليف أو الاستنساخ لأمهات كتب التراث العربي والإسلامي، بالإضافة إلى الكتب التي أمر أئمة اليعاربة باقتنائها من خارج عمان. ومن المكتبات التي ظهرت آنذاك مكتبة الإمام أحمد بن سعيد في الرستاق وقد نقلها إبنه سعيد لاحقا إلى حصن المنصور في عام 1226هـ/1811م، وقد أضاف أبناء الإمام إلى هذه المكتبة الكثير من الكتب. ومن المكتبات أيضا مكتبة الشيخ الرئيس أبي نبهان في بيت الراس بعلياء وادي بني خروص وكانت تضم ما بين 6آلاف و8 آلاف كتاب، حرص الشيخ المعروف بشغفه بالمعرفة على جمعها طوال حياته. واستفاد الأديب والمؤرخ حميد بن محمد بن رزيق من مكتبة والده، إذ وجد فيها كثيرا من مصادر الفقه والأدب والتاريـخ. ومن المكتبات الخاصة آنذاك مكتبة الشيخ سلطان بن محمد البطاشي الذي عيـّنه السيد حمد بن الإمام سعيد قاضيا، وكانت مكتبته في بلدة إحدى بوادي الطائيين تضم كثيرا من الكتب المخطوطة، وقد أوصى الشيخ بأن يصرف جزء من أمواله للعناية بالمكتبة. كما كانت للشيخ عبدالرحمن بن محمد بن بلعرب البطاشي في وادي الطائيين مكتبة احتوت على قرابة ألف مخطوط.

ونستطيع القول أنه بالرغم من تعذر الإحاطة بجميع المكتبات التي كانت تغذي الحركة العلمية في عمان آنذاك إلا أن النماذج التي أشرنا إليها آنفا تشير إلى استيعاب تلك المكتبات لعدد كبير من المؤلفات في كثير من المعارف، ولم تقتصر على المكتبات الرسمية، بل شاعت المكتبات الخاصة للعلماء الذين ألفـّوا كتبا وجمعوا ما قدروا عليه من عمان وخارجها، وكانوا يولون مكتباتهم عناية فائقة، ويوقفون لصيانتها أموالا طائلة، ويقررون في وصاياهم بذل الأموال للاعتناء بها حتى بعد مماتهم، إلا أن الأوضاع المضطربة في بعض الأحيان كانت سببا في إتلاف بعض المكتبات، وفقدان الفكر الإنساني لبعض كنوزه  ، كحادثة حريق مكتبة الرستاق في نهاية عهد اليعاربة.
البيوت والمجالس الخاصة

كانت بعض البيوت والمجالس الخاصة تحتضن حلقات علمية، ومن بين أشهر تلك البيوت (بيت القرن) الذي بناه الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي في الرستاق، و (بيت المنصور) الذي بناه ابنه سعيد في الرستاق أيضا وكان يضم مكتبة كبيرة. وتعتبر هذه البيوت امتدادا لبيوت الرستاق القديمة ومنها (بيت الجامع) في العلاية و(بيت الدويـّة) لقبيلة المزارعة وقد بناه الشيخ عبدالله بن خميس المزروعي، بالإضافة إلى بيوت ناحية قصرى ومنها (بيت الإمام ناصر بن مرشد) و (بيت الرحبة)، وقد أوقف ريع بعض بيوت قصرى لكتب مكتبة قلعة الرستاق. ومن البيوت المعروفة أيضا (بيت سليط) في نزوى وقد بناه الشيخ عبدالله بن محمد الكندي في أرض تسمى سليط. وفي مسقط بنى السيد خلفان بن محمد الوكيل بيتا كان يجتمع فيه العلماء و المسؤولين في المدينة، واستضاف فيه الشيخ سعيد بن أحمد الكندي الذي وفد عليه العلماء وطلبة العلم.

المراكز والمدارس العلمية:
حافظت مدن نزوى والرستاق وبهلا وسمد الشان وصحار على أهميتها كمراكز علمية تقليدية في بداية العصر البوسعيدي، وظهرت مراكز أخرى هي وادي بني خروص ووادي المعاول ونخل ومسقط. وقد احتضنت مدينة نزوى كوكبة من أبرز العلماء منهم حبيب بن سالم الأمبوسعيدي وسعيد بن أحمد الكندي وهلال بن عبدالله العدوي، وكان طلبة العلم يتوافدون على نزوى لحضور مجالس أولئك العلماء. وفي الرستاق ظهرت مدرسة علمية تخرج منها الكثيرون.


مدرستا الكندي وأبي نبهان في وادي بني خروص:
سبقت الإشارة إلى أنه لما انتقل الشيخ سعيد بن أحمد الكندي من نزوى إلى هجار وادي بني خروص أقام بها مدرسة علمية توافد عليها الكثير من العلماء وطلبة العلم ، وكان الشيخ الكندي أحد أبرز علماء عمان آنذاك. أما أبو نبهان جاعد بن خميس الخروصي فقد أسس مدرسته في موطنه بالعلياء ، وقد وصفه العـّلامة نورالدين عبدالله بن حميد السالمي بأنه المتقدم على أهل زمانه بالعلم والفضل والشرف. عاش أبو نبهان خلال الفترة (1147 ـ 1237هـ الموافق 1734-1822م)، وتتلمذ على أيدي أبرز العلماء، ثم تدارس العلم مع عدد كبير من علماء عصره، واستفاد من علومه عدد كبير من طلبة العلم في كثير من المدن العمانية. وقد احتلت فتاواه مكانة عظيمة في كتب الفقه المعاصرة له أو التي جاءت من بعده، مثل (قاموس الشريعة) لجميل بن خميس السعدي،و(لباب الآثار) لمهنا بن خلفان البوسعيدي، وغيرهما. وانفرد بآراء في مسائل فقهية. كان أبو نبهان موسوعي المعرفة، كتب في علوم الشريعة واللغة والأدب، وتنوعت آثاره  الفكرية بين مؤلفات، وجوابات في الرد على العلماء والطلبة، ورسائل متبادلة مع العلماء والساسـة. كما كان يعد رائد المدرسة السلوكية الاباضية التي تمثل وجهة نظر الاباضية في التصوف. وإجمالا فقد وصفه معاصره إبن رزيق بأنه خاتمة جهابذة علماء عمان والمشار إليه بالبنان. وبالإضافة إلى منزلته العلمية الكبيرة كان لأبي نبهان نشاطا سياسيا واجتماعيا واضحا، فقد طلب منه شيوخ وأعيان مدينة نزوى التدخل للمساعدة في حل مشكلة دارت بينهم وبين الإمام سعيد بن أحمد البوسعيدي على إثر قضية قتل فيها بعض الأشخاص في نزوى في عام 1198هـ/ 1783م. وبعد أن وقف  السيد سلطان وإخوته معارضين لسياسات أخيهم الإمام سعيد استعانوا بالشيخ أبي نبهان لما يمثله من مكانة، فأيدهم على أن يتم تعيين الإمام الجديد وفق مبدأ الشورى بعد الإطاحة بالإمام سعيد ، إلا أن جهوده في هذا الجانب لم يكتب لها النجاح، إذ تمكن سلطان من إزاحة منافسيه بعد وفاة السيد حمد ابن الإمام سعيد. وكان لأبي نبهان موقفا متشددا ضد الحركة الوهابية التي انطلقت من نجد وامتد تأثيرها الفكري والسياسي إلى عمان، كما كانت له مراسلاته الفكرية والسياسية مع أمراء وعلماء نجد وإباضية المغرب العربي.

تعليق عبر الفيس بوك