قصة قصيرة:

ثلاثة مسالك لمعلمة السعي

ناصر سالم الجاسم – السعودية


أنزلتها من على ذراعي.. مددتُ يدي لأمسك بالبياض المولي الأدبار.. أحاول عبثًا القبض عليه قبل أن يأتي الخرمس والألم ينتش من كبدي، والوجع متجذر في صدري كعروق شجرة طلع عجوز.. أنشأتُ أصيح كطائر ببغاء في قفص يخطط بصوته للحرية.. انطرحت أمامي ثلاث دعوات للسفر.. الأولى إلى قرى الدود، والثانية للعيش في مدن الفيروس، والثالثة معتمة الضوء مجهولة الهوية.. اقتنعت بأن الحياة دخان ورماد، وأيقنتُ أن عمري الافتراضي مستحيل الرؤية كالعنقاء، رقاص الساعة المنزعج بدأ يقذف صخورًا سوداء في وجهي.. ندمتُ لأنني تركتها كما تُركتْ هاجر من قبل وزهور الآس والنسرين بعيدة عنها في كف جبل جعلتُ أجرح سكون الخرمس بضحكي الصاخب العاهر.. لقد فشلتُ في ادخار حزني لمواسم فرح قد لا تأتي..
دخلتُ دسكرة تسقي أبناءها الحكمة من قوارير فارغة، تركت أطفالها ينامون لصق القدور التي تفتت الحصى.. عرفتُ آنذاك أن مكاني بين أعمدة النور والقار الأسود وأن العالم مولع بالحزن.. لاحظتُ من سخونة وجهي أن السجر يزداد في عيوني، فذهبتُ أبذر دمعي على القار البارد.. قلت لنفسي المذبوحة بالسفر: ليستحم الشارع المشحونة ذاكرته بتواريح الموت والإعاقة بدموع حزني المرقمة، سائقو السيارات لم يبالوا بزرعي الحزين واستلذوا قتله بالإطارات الهاربة.. انحصر حصاد السعي في البصاق والشتائم الجاهزة..
لمحت صفوفا بشرية تركض خلف مجنون يحاول أن يركب عنزة.. شققتُ الجموع البشرية الملتفة حول المجنون والعنزة كطوب بئر حاملًا نعش افتراء.. قال المجنون وهو ينافح عن راحلته: "العنزة الميتة كنز لجيل فضاء سيحتل من تدور بين الشمس والقمر" .. العصافير حراس الليل النائمون يعلنون ميلاد البياض. انتخبني المجنون من بين الجموع وأمسك بيدي.. حاول أن يصعد بي شجرة لوز سامقة أغصانها، ولمّا يئس طاف بي على التجار في الأسواق الخرسانية وهو يعد نطف غناء غير معتادة السماع: "الموت دواء لمن لا دواء له" "النبوءة متعة فجربوها".
حضرتْ في ذهني صورة أمي وهي تطعم الدجاج، والخرمس موشك في الانقضاض على البياض.. كانت الدجاجات تتأهب للخرمس بملْءِ حويصلاتها بالحبوب الفاضل من طعام الآدميين والتمر المهروس.. وبعد الشبع تصطف على درجات السلم الخشبي المؤدي إلى باب الحظيرة وتنظف جسدها من القمل والتراب بمناقيرها قبل النوم.. عرفت وقتذاك أن الطيور تنام واقفة وأن الديكة آخر النائمين منها وأول المستيقظين فيها.. تذكرتُ أنني لم أستفد من سلوك الديك في الحفاظ على دجاجاته وأنني كنت معجبًا بعدوانيته.. غالبية الأسماء المذكرة تتمتع بالعنف.. صاروخ.. مدفع.. رشاش.. لغم.. ساءني في الديكة حرصها على البياض..
قال المجنون وهو يجمع عرق جبهته بأصابعه ويصبه في كأس ليشربه: "التوازن لدى الطيور متحقق في صحوها وفي نومها أما الإنسان فلا".
احترمت المجنون أكثر وهو يتحدث عن أفكار خطرة يجهلها الكثيرون.. فرَدَ المجنون غترته البيضاء.. اتخذ من الشارع مرسمًا.. ثبت الغترة من زواياها الأربع بحصيات صغيرة.. اكتشفته رسامًا عظيمًا، فقد رسم راحلته ترعى عشبًا أخضر.. ناعمة الشعر.. كثيرة اللحم... منتشية بالرعي.. ووقع عليها بمقلتيه.
أعد المجنون نطف غناء جديدة خافتة النبرة: "دفاتر العلماء ناقصة، وأوراق الشعراء مزيفة.. عليكم بالحرث فوراءه تنجلي الحقيقة"" "النساء لا يعرفن التنبؤ إلا بما في بطونهن.. اتركوهن للحمل والولادة" "ستأكلون التراب إذا شح الماء".
لبس المجنون غترته اللوحة وراح يهرول بعيدا عن أعين السائقين المتوقفين لفتح أفواههم والتصوير بعيونهم.
حط الخرمس ركائبه في العارية. رحت أناديها بصوتي المقهور ولم ترد.. بدأتُ أتحسس مكان وجودها بأصابعي حتى عضني ضبّ.. ردد الجبل الذي نبتت على كفه زهور الآس والنسرين صدى صوت المجنون: "لا لن تعود لا لن تعود..". سقط نصف إصبعي الخنصر من فم الضب وعاد الضب إلى جحره.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة